دعا خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز – حفظه الله – في مؤتمر التضامن الإسلامي الذي عقد في مكةالمكرمة أواخر شهر رمضان، إلى تأسيس مركز للحوار بين المذاهب الإسلامية في الرياض. وتقوم هذه الدعوة الخيِّرة على قناعة مفادها أن من الممكن لممثلي المذاهب الإسلامية المتنابذة أن يتحاوروا ليصلوا إلى كلمة سواء تضع حدا للخصام الذي دام قرونا وسالت بسببه أنهار من دماء المسلمين.لكن السؤال هو: هل يمكن لهذا الحوار أن يقوم؟ وهل يمكن له أن يثمر شيئا، لو قام؟ والإجابة التي يمليها الواقع وتاريخ مثل هذه الحوارات سلبية عن السؤالين كليهما. ولهذا أسبابه التي يعرفها متابعو مثل هذه الحوارات قديما وحديثا، ليس بين المذاهب الإسلامية وحسب، بل بين الأديان كلها، والطوائف الدينية داخل كل دين.ومن الواضح أن المقصود بهذا الحوار ليس الحوار بين المذاهب السنية الأربعة؛ فالخلافات بينها قليلة، ولا ينشأ عنها إلا قليل من الشقاق. وهو ليس الحوار بين “التوجهات” المتعددة داخل المذهب الشيعي. وهو ليس الحوار بين بعض المذاهب الإسلامية الأخرى، كالزيدية والأباضية والإسماعيلية من جهة والسنة من جهة ثانية. فالخلافات بين السنة وأي واحد من هذه ليست بتلك الحدة. أما الحوار المقصود فهو الذي يؤمل قيامه بين السنة والشيعة. ولمزيد من الدقة فهو الحوار الذي يتغيا التخفيف من التناحر بين “السلفيتين” الشيعية والسنية. وهما الجناحان اللذان يثابر المتشددون فيهما على إدامة التناحر الذي يكاد يقتصر منذ عقود عليهما، مع أنهما لا يمثلان إلا أقلية بين المسلمين، شيعة وسنة. والحوار بين هذين الجناحين غير ممكن، ولن يؤدي إلى نتيجة. إذ ينطلق كل واحد منهما من اعتقاد راسخ بأنه يمثل، وحده، “الإسلام الصحيح”، وأن المسلمين الآخرين “مخالفون”، وأن الحوار الممكن مع هؤلاء “المخالفين” لا يزيد عن “تبيين الحق لهم”. ويتفق المسلمون جميعا على أن الأساس الذي قام عليه الخلاف بين الشيعة والسنة خلاف سياسي بين الصحابة، رضي الله عنهم جميعا. وهو الذي تحول بمرور الأجيال إلى خلاف “عقدي” ربما يصل إلى حد تقرير من يكون مسلما ومن لا يكون. ولا يمكن ل”شيعي سلفي” أبدا أن يقنع “سنيا سلفيا” بالتخلي عن “عقيدته” السلفية السنية، والعكس صحيح، ولا يمكن للفريقين أن يحيِّدا نقاط الخلاف العميقة القليلة بينهما. لذلك ربما يكون وصول الفريقين إلى اتفاق – حتى على الخطوات الأولى لرأب الصدع بينهما – مستحيلا. فنقاط الخلاف بين الفريقين المتشدِّدَين جوهرية لا يمكن حلها إلا بتخليهما عن هذه النقاط. ولو تحاور الفريقان فلن يكون هدف كلٍّ منهما إلا السعي إلى الانتصار على “الخصم” وإرغامه على التخلي عن معتقده. وتمثل “الإمامة” الأصلَ الذي يفرق بين الشيعة والسنة وتحتل الأولوية في تراث الفريقين، وتؤدي إلى التغطية على المشتركات المهمة التي تجمع بينهما. وهي أصل لو تخلى عنه الشيعة لحلت نقاط الخلاف كلها، ولو تخلى السنة عما يعتقدونه فيها لحدث الأمر نفسه. ولأن المتشددين من الطرفين يبالغون في التأكيد على جذرية هذا الأصل فلا بد من البحث عن متحاورين من غير هؤلاء. ومما يبعث على الأمل أن هناك وجهات نظر متعددة عن “الإمامة” بين الشيعة ومثلها داخل السنة عن هذه القضية يمكن أن ترسم طريقا للخروج من هذا المأزق الضيق. فيرى بعض علماء الشيعة الكبار المعاصرين أن الإمامة من “ضروريات المذهب” لا من “ضروريات الإسلام” ويعني هذا أن من ينكرها من المسلمين صحيحُ الإسلام. ويرى كثير من علماء السنة، قديما وحديثا، أن استيلاء الأمويين على الخلافة وتحويلها إلى ملك لا رأي للمسلمين فيه هو الذي أدى إلى هذا التنازع. لذلك ربما تكون الخطوة الممهدة للحوار بين المذهبين أن يبدأ الحوار بين من يتبنون وجهات النظر المعتدلة هذه والمخالفين لهم في داخل كل واحد من المذهبين للوصول إلى موقف بديل للمواقف التقليدية الحدِّية يكون بداية للتقريب بين وجهات النظر، وأساسا للحوار بين المذهبين. ولا يعني كون الحوار بين المذهبين عموما على هذه الدرجة من الصعوبة، بل الاستحالة، الاستسلام لليأس، بل يجب التجاوب مع دعوة خادم الحرمين الشريفين ببذل الجهد للبحث عن بعض الخطوات العملية التي يمكن أن تسهم، ولو بعد حين، في بناء الثقة بين الفرقاء، خاصة في المملكة. ومن هذه الخطوات، مثلا: -1 تحسين العلاقات بين المملكة وإيران التي يتكئ مؤججو الخصام بين الشيعة والسنة على توتُّرها وتوتيرها. -2 أن تخفف الدولتان التركيز على خصوصيتيهما المذهبيتين كما تبدوان في الوثائق الدستورية الرئيسة فيهما. -3 المبادرة إلى إغلاق الفضائيات الطائفية التي يمولها المتطرفون من الشيعة والسلفيين. -4 أن يقوم الحوار بين وجهات النظر الشيعية المختلفة في مقر الحوار المقترح في الرياض، وأن يؤسس مركز مماثل في النجف يستضيف الحوار بين الفرقاء السنة. -5 أن يبادر المعتدلون من السلفيين بالدعوة الجادة إلى التوقف عن تنزيل الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة التي تخص المشركين على المسلمين. -6 أن يبادر المعتدلون الشيعة بالدعوة الجادة إلى التوقف عن تنزيل الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة التي تخص المنافقين على الصحابة وعموم السنة. -7 أن تفتح الجامعات “الدينية” الثلاث في المملكة أبوابها للطلاب الشيعة السعوديين، وأن تقدم منحا دراسية لطلاب شيعة من غير السعوديين. -8 أن تُحدِث الجامعات الثلاث أقساما للدراسة المقارنة للمذاهب الإسلامية كلها، وأن يشارك علماء من المذاهب الأخرى في التدريس في هذه الأقسام. -9 أن تنشئ جامعة الإمام محمد بن سعود “الإسلامية” خاصة فرعين لها، أحدهما في القطيف وثانيهما في نجران لتدريس المذاهب الإسلامية كافة. -10 أن تتخلى الجامعات “الدينية” السنية السلفية والحوزات الشيعية عن طابع الدراسة الترويجية لمذاهبها وآرائها، وأن يستبدل بها مناهج تقوم على المقارنة والبحث العلمي الرصين تهدف إلى المعرفة لا إلى “الدعوة”. ربما تكون هذه المقترحات، أو بعضها، صادمة لبعض القناعات في الطرفين. لكنها ربما تكون ضرورية لفتح المجال للتفكير في ما يصعب، أو يستحيل، التفكير فيه في الوقت الحاضر من أجل كسر دائرة التناحر المذهبي المفرغة التي لم تزد المسلمين إلا ضعفا وتشتتا وهلاكا.