«بعد أن فشل الحكام الفرنسيون في التأثير علينا بقوة السلاح، ها هم يحاولون القيام بهجوم أكثر حنكة وخطراً، بغية تلويث شبابنا، فقد بعثوا إلينا مجموعة من الراقصات اللواتي، وبمساعدة مختلف الوضعيات غير المهذبة واللقطات المسرحية الفاسقة، نجحن تماماً في إضعاف وتدنيس معتقدات الشعب».. هذا المقطع لم يرد على لسان واحد من المتشددين في القرن التاسع عشر عقب رحيل الحملة الفرنسية عن مصر (وإن كنت أثق أن مثل هذا الرجل كان موجوداً ليبدي اعتراضه على قدوم بعض الفرق المسرحية الفرنسية في الفترة نفسها)، هذا المقطع ليس على لسان أحد هؤلاء الذين يمكن وصفهم بالمتشديين أو بالأصوليين أو بالرجعيين، ولكنه ورد على لسان أحد الأساقفة الإنجليز عام 1798 مخاطباً مجلس اللوردات البريطاني بمناسبة استضافته فريق رقص الباليه الفرنسي. الأسقف الإنجليزي مثله مثل الشيخ المصري أكثر ما يخشاه هو «الاختلاف»، فالاختلاف -على عكس ما تقتضيه الفطرة- مؤامرة على الذات، التي هي على حق دائماً. هؤلاء في كل مكان يشعرون طوال الوقت أن ثمة مؤامرة تحاك على هوية الأمة، التي حددوها هم مسبقاً، وعلى مقاسهم، التي هي هويتهم هم أنفسهم. يشعر هؤلاء أن أي «جديد» وافد من بلاد الغرب هو جزء من خطة كبرى لمحاربة الثقافة العربية، وفي رأيي أن ذلك يعكس أولاً انحيازاً مطلقاً ضد الآخر، ويعكس ثانياً انعدام ثقة تاريخي في الذات، فإذا عرفنا أن الغرب – هذا الآخر- يسمح لجميع الثقافات المحلية للوافدين إلى بلاده بالتعايش، فإننا نعرف قدر ثقة هذا الآخر في نفسه وقدر معرفته أن الذات لا تنتعش إلا في وجود الآخر.صحيح أن هذا الآخر لديه خطط لحماية نفسه، ولحماية ثقافته، وربما للقضاء على الثقافات المهددة لثقافته، لكن من قال إننا يجب أن نستقبل ثقافات الآخر دون حذر. ما أقوله إننا في تعاملنا مع الآخر ومع ثقافاته يجب أن نفرق بين الحذر الذي يفرض علينا غلق الباب في وجه كل ما هو جديد، وبين الحذر الذي يستوجب علينا معرفة مَن بالباب قبل فتحه. بعض بل كثير من الثقافات المغايرة لثقافاتنا المحلية تطرق أبوابنا بحكم ثورة الاتصالات، وعلينا فتح الباب لها للدخول طالما لا تحمل سلاحاً. صحيح أيضاً أن الغزو الثقافي هو نفسه غزو مسلح، ولكن ماذا لو وثقنا في أنفسها قليلاً؟ ماذا لو وثقفنا في ثقافتنا؟ ماذا لو قدرناها حق قدرها وفكرنا أنها ليست بالهشاشة التي تمكن الآخر منها بسهولة؟ ماذا لو فكرنا في ضرورة أن نختبرها بين الحين والآخر؟ واختبار قدرتها على الصمود أمام تجديد دمائها؟ ماذا لو فكرنا أن تلك المواجهة بين ثقافتنا المحافظة وبين ثقافات الآخر تدريب لنا ولثقافتنا على المواجهة؟ ماذا لو فكرنا أن الانغلاق نفسه والثقة المفرطة في صحة ثقافتنا -لا قوتها- قد يطيح بها مع أول مواجهة؟ المقطع الذي استعرته في بداية المقال على لسان الأسقف الإنجليزي مهم لأنه يُطلعنا أن بين ظهراني الآخر من هم يفكرون بالطريقة التي يفكر بها بعض أبناء جلدتنا، وأن هؤلاء وهؤلاء رغم أصواتهم العالية لم ينجحوا أبداً في إغلاق الأبواب وتحصين البيت من التجديد، فكما أن الأسقف الإنجليزي لم يتمكن من منع الفرق الفرنسية من التوافد على إنجلترا، فإن جميع الأساقفة في كل الدنيا لم يمنعوا الفرق الفرنسية من دخول أراضيها، لأن فضول الناس للمعرفة فيما يبدو يفوق أي تخوف وأي حرص وأي ارتعاش، ويغلب أي تحذير وأي احتجاج أو تخويف. لو فكرنا مثلاً في مسلسل عمر الذي أذيع رمضان الماضي نعرف أنه بحد ذاته كان انتصاراً للتجديد، خصوصاً وأنه كان مدعوماً بعدد من الفقهاء ليس أشهرهم الشيخ القرضاوي، لأنه على مدار سنوات وسنوات كان مجرد طرح فكرة تمثيل الصحابة في الأعمال الدرامية يجرّ على صاحبها معارك كثيرة. يقول رب العزة «وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالمِينَ»، ورغم بعض التفسيرات التي تقرأ هذا التدافع في ضوء الصراع بين الحق والباطل، فإن بعض التفسيرات الأخرى تقرأ هذا التدافع في ضوء تدافع القديم والجديد. أنا أميل لهذه القراءة لأن التاريخ البشري -أو تاريخ الحضارة الإنسانية- يقول إن الصراع دائماً كان بين أصحاب المخاوف من التجديد وبين الراغبين في التجديد، ويقول أيضاً إنه إذا كان من الصحيح أن أصحاب المخاوف من التجديد يبدون دائماً في هيئة المنتصرين، فإن الصورة الكاملة لتاريخ الحضارة الإنسانية تكشف عن خذلانهم وانتصار المجددين.