رأيت أني في حضرة أموات أعرفهم. أحوالهم مختلفة ولا يظهر أثر عذاب أو نعيم عليهم. سألت شاعراً أعرفه: ما صنع الله بك؟ نظر إلي ملياً دون أن تظهر عليه أي تعابير، ثم قال: كنت مع القوم ألبس لباسهم وأعيش طقسهم وأتوارى في غمارهم وألتحف الصمت ما وسعني. عشت أصحب المساكين وأتردد على مجالس الفقراء، وأتزود من معاناتي ومعاناتهم وأدهنها بالشعر، فتخفف عني همّ الساعة وكدر ضيق ذات اليد. لا أجالس المثقفين في ناديهم وهم لم يبحثوا عني ويتحملوا نزقي. فلما كان مرضي الذي متّ فيه، زاحموا زواري ودبجوا القصائد في مدحي، حتى وافاني داعي الموت. انفضّ بعدها سامرهم وتقطعت حروفهم، وألفيتني هنا أنظر لعسر حال عيالي من بعدي وسوء معاشهم عكس حال صاحبنا هذا.. وأشار بيده لقصير بدين يجلس عن يمينه. تأملت ملامحه فإذا هو قاص، شاعر، صحفي وروائي كنت لا أحب كتابته. نظرت إليه وسألت: لماذا يحسدك صاحبنا؟ رد متبسماً: أنا أعرف الناس بالناس. لا يعنيهم الإبداع، غاية شهوتهم ذكرٌ يتنعمون به في حياتهم وجاه ومال ينفخ جيوبهم ويزيدهم بطراً. فطفقت أقبل يد الكبير وأصاحب من بيده مفاتيح ما استُغلق، حتى نلت الرضا في حياتي وتنعم من حولي. عندما نزل بي ما ترى، تركت خلفي سعادة قائمة لمن بعدي، ولم أعن بما تظن أنت أو أي شقي ظن الكتابة زاداً لمن أحسن الحرف وأضاع الجاه. قاطعه مناد وصلنا صراخه من بعيد: “الغريب مَن إن حضر كان غائباً، وإن غاب كان حاضراً. الغريب مَن إن رأيته لم تعرفه، وإن لم ترَه لم تستعرفه”.