عملت مع عديد من الجراحين سواء منهم من تعلمت منه أو زاملته، أو بدوري علَّمْتُه، أي أنني أسجل ثلاث تجارب مع ثلاثة أجيال من الجراحين. أما من تعلّمت منهم فكانوا خليطا من سفاحين وأفاضل. مازلت أذكر موت الشابة الحلبية في مستشفى التوليد، بتفريغ رحى عدارية من الرحم. طلب الجراحُ والدها القصاب فلما حضر بدأ في تعنيفه لأنه السبب، وهو من ورطه في إجراء العملية! كنت أنا الشاهد وأعرف المجرم تماما ولسوف يعود إلى ربه فيسأله عنها. والوالد المفجوع يتأمل جثة ابنته حزينا منكس الرأس. كما عملت مع أناس أفاضل جمعوا بين إتقان الفن والخلق وطيب المعشر. وما يحزنني أنني تمنيت أن أنقل الفن الذي تعبت في تحصيله لجيل آخر، لكنني لم أجتمع إلا نادرا مع الحريصين على بناء أنفسهم. أذكر من الجراحين السفاحين “كارل توما” الألماني وقبله السوري الطرابيشي الذي عملت معه ثلاثة أشهر في نصب وعذاب. لم نتعلم منه سوى الصبر، ووضع المبعِّد وترداده لنصف الشهادة حين (يعصِّب) كان يردد “أشهد أن لا إله”. وهي لم تصل حتى ربع شهادة . اشتغل معه لاحقا صديق لي وسمعت عن استخدام نفس أدوات الجراحة في الصراع الذي نشب بينهما في قاعة العمليات وهو أمر متوقع! أما أنا فتعلمت تجرع كؤوس الصبر المرّة دهاقا. أما “كارل توما” الذي عملت معه في مدينة صغيرة في بافاريا (سيلب Selb 8672) فكان وحشا في صورة آدمي. كان يزعق في العملية وكأنه “طرزان” في الغابات، ويقرع برجله الأرض كأنه “غوريلا” من غابات الكونجو برازفيل. كان عنصريا مترفعا متكبرا متعجرفا لايعرف التسامح ولا تستطيع الاقتراب منه. كان إذا صعد الدرج أثناء زيارته في عطلة نهاية الأسبوع يجب أن نمشي نحن خلفه. وإذا سأل عن حال المرضى لم يتوجه إلينا بل إلى الممرضة. كان يفرح ويقدم المقيم الألماني إن حالفه الحظ وجاءه مقيم ألماني، حيث إن معظم القادمين الفارين كانوا من جمهوريات الخوف والبطالة، فروا بجلودهم من وحشية النظام السادي. مع هذا يجب أن أعترف له بخصلتين: الصبر في العمليات والعمل الشاق حتى ظهور الإعياء على وجهه. وإن كانت الأخيرة خصلة في معظم الشعب الألماني. لم نتسلم عنده إلا عمليات “الزائدة” التي كانوا يجرونها بكثافة لكل من جاء يشكو من بطنه. فكانت كلها في نظري عمليات “دون طعمة”! وقصصي مع فيلق الجراحين وقصصهم مايستحق كتابا مستقلا وتختصر بجملة قصيرة أخلاقهم صعبة وحياتهم صعبة ومواجهاتهم صعبة، وذكرياتهم دماء ومناماتهم فتح البطون وشق الصدور واستئصال الزوائد المنفجرة والمرارات الملتهبة والسرطانات المنتشرة، فما أبأسها من ذكريات منكرات.