أخبرني أخي الفاضل الدكتور عبدالرحمن العارف مساء يوم الاثنين نبأ وفاة أستاذنا العلامة عبده الراجحي ,فحزنت لفقده كثيراً، وأسفت عليه أسفاً شديداً , ورحت أسترجع شريط ذكرياتي مع هذا العالم النبيل الأصيل , فبدا لى آخر الشريط وهو تلك الخاطرة التي مرت بي في اليوم نفسه عصراً بعد خروجي من المحاضرة في الجامعة عاتباً على نفسي أنني لم اتصل به هاتفياً منذ أكثر من شهرين تقريباً لأطمئن على صحته وأحواله , كما هي عادتي. وفي آخر اتصال سمعت صوته الجهوري المألوف عندي الممزوج بالشوق إلينا والتلهف إلى سماع أخبارنا، سائلا ومسلما عن جميع الأحباب والأصحاب والعائلة ,ولم أك أدري أن هذا الاتصال هو الأخير، كما لم أك أدري أن تلك الخاطرة هي في يوم وفاته فلعلها وداع منه قبل صعود روحه إلى رب كريم رحيم. رحم الله الشيخ وأسكنه فسيح جناته. وحين أمسكت القلم لأكتب عنه هذه المقالة السريعة الموجزة تزاحمت المعاني السامية التي اتصف بها لتسطيرها –وما أكثرها- وترافقت الشمائل النبيلة التي خلق بها– وما أغزرها –لإبرازها, ناهيكم عن علومه المتعددة التي تمكن منها، وأصناف الفنون التي برز فيها, ومثل هذه العجالة لا تكفي لإبراز هذه الجوانب المتعددة ولكن مالا يدرك كله لا يترك جله، فلعلي فيما سأكتب أبرز أهم معالم صورة شيخنا على نحو ما نراه : 1- كان –رحمه الله – على دين وخلق واستقامة وأخلاق حسنة فبوأه الله المراتب العالية والوظائف الرفيعة, فهو عضو معتمد في لجان الترقيات العلمية, وعضو متألق في مجمع اللغة العربية بالقاهرة ,وقبل هذا وذاك هو علم من أعلام جامعة الإسكندرية في مصر وجامعة بيروت العربية في لبنان, فما ان تذكر هاتان الجامعتان إلا ويذكر الدكتور عبده الراجحي ،فهو باني البنيان ومؤسس الأركان فيهما, والذي أعلمه أن علية القوم في لبنان تكرمه وتحبه، وإذا حدثك رحمه الله عن بلاد الشام تشعر كأنه واحد منهم, خبير بلهجاتهم وتقاليدهم . ولحبه لأهلها اختار شريكة حياته من فلسطين من العائلة الكريمة (الضامن ) ألهم الله( أم محمد) الصبر والسلوان, فقد فجعت بولدها محمد من قبل, قال لي: إن موقف (أم محمد) أقوى من موقفي, وتسليمها لقضاء الله وقدره أراحني, وحين واستها زوجتي قالت لها :إن ابني كان عندي أمانة من الله فأراد أن يسترجعها فلماذا الجزع ؟إنا لله وإنا إليه راجعون . أسرة كريمة، زوج صالح وامرأة صالحة فيما نحسب، وأولاد كرام بررة، وإخوة أفاضل أعرف منهم الأستاذ الدكتور شرف الدين الراجحي فهو أخ كريم لنا ,وكنت من المداومين على زيارته في بيته في عمارة الدكتور عبده نفسها في حي رشدي مع أخي الحبيب الذي براني الشوق إليه وهو الدكتور( زكريا الفقي) الذي شاركني في الدراسة على( الدكتور عبده الراجحي) وإخوانه الدكاترة (عبد المجيد عابدين)(وطه الحاجري)( وبدري عبد الجليل)( وحسن عون )و(زكي العشماوي)و(مصطفى هدارة) (وسيد خليل) وغيرهم كثير من أعلام جامعة الإسكندرية الأكارم. ومن إخوان الدكتور عبده الطبيب( إبراهيم الراجحي) الذي يعمل في المستشفى الوطني بالجدة ،والمهندس محمد في شركة ابن لادن في المدينةالمنورة. كان –رحمه الله – عميد أسرته إليه يفزعون وبتوجيهاته يعملون، وحديثي عن إخوانه وأسرته يدفعني إلى أن أتحدث عن أولاده ،فقد رزق بثلاثة أولاد ذكور: محمد، وعلي ،و ثالث لا اذكر اسمه الآن وهو أصغرهم، وبنت واحدة اسمها عزة. أما محمد فهو شبل من ذاك الأسد ،فقد برع في كلية الطب فتلقفه الألمان ليعمل عندهم وفق معاهدات ثقافية بين مصر وألمانيا, ولمهارته في جراحة القلب, كان يحضر من ألمانيا لإجراء العمليات في القاهرة على المواطنين المصريين , وفي إحدى المرات دخل غرفة العمليات وهو مرهق لأنه حضر من المطار مباشرة إلى غرفة العمليات وحين كان يجري العملية توقف قلبه النابض وخر مغشيا عليه من الإرهاق ففارق الحياة. وكانت وفاته فاجعة عظيمة ومصيبة أليمة, تلقاها الدكتور عبده وأسرته بالصبر والاحتساب على أمل اللقيا بابنهم في جنة عرضها السموات والأرض ،كما قال لي الدكتور عبده _ رحمه الله _ لقد حضر بعد موت ابنه ومعه أسرته إلى مكة معتمراً واتصل بي هاتفياً قائلا : أنا أمام باب الملك عبدالعزيز آمل أن أراك، ولا أستطيع تلبية أي دعوة في منزلكم الآن, فهرعت ورأيته فمما أخبرني به أن ما حصل لابنه (محمد) كان يتوقعه منذ أن كان محمد صغيرا, وأنه كان يستشعر بأن هذا الولد سيخطف منه اختطافا, لذا تحقق ما كان يستشعره بتلك الفاجعة حامداً الله وداعياً أن يجمعه به في الجنة . أما الجانب الثاني الذي أود الحديث عنه فيتمثل في مواقفه النبيلة الدالة على جبلة كريمة وأرومة أصيلة, فبره لأساتذته لاتخفى على أي طالب من طلابه، فمما أذكره ذلك الجهد الذي بذله في جنازة أستاذه وأستاذنا الدكتور حسن عون _رحمه الله_ لتظهر جنازته لائقة به مع أنه يخالفه في كثير من آرائه العلمية, ومن ذلك أيضا إشغاله الدكتور (عبد المجيد عابدين) بعد تفرغه لكبر سنه في قسم الدراسات العليا فكان نعم العالم والمربي والموجه, ومن ذلك موقفه من الدكتور محمود الطناحي – رحمه الله- الذي أنصفه حين تقدم إلى الترقية في مصر فلولا الله ثم الدكتور عبده الراجحي لما حصل الدكتور محمود الطناحي على درجة أستاذ, لأن أعماله العلمية التحقيقية لم ترق لأفراد اللجنة ،لكن الدكتور عبده وجد في هذه التحقيقات ما يدل على استحقاق الدكتور الطناحي لهذه الدرجة. أما مواقفه مع الطلاب فحدث عن البحر ولا حرج, وأكاد أجزم أنه لا يوجد طالب وافد درس في قسم اللغة العربية في جامعة الإسكندرية إلا وللراجحي-رحمه الله - أياد بيضاء ومواقف كريمة معه, وأنا واحد منهم. لقد كان لي نعم الأب الحاني، والموجه والعالم النير، والشيخ الفاضل ،والمربي الكامل . ومن كرمه مع طلابه أنه حين انتهت إعارته في المملكة العربية السعودية في الرياض أهدى كل أثاث بيته إلى أحد الطلاب الوافدين الفقراء . وما ذكرناه من مواقفه النبيلة ومروءاته الأصيلة هو غيض من فيض, فهو كما قال الشاعر: ولو أن ثوبا حيك في نسج تسعة وعشرين حرفاً في علاه قصير أما الجانب الثالث فهو تكوينه العلمي ونشاطه المعرفي. نشأ في بيئة علمية راقية، فالأساتذة الذين ذكرنا بعضاً منهم في جامعة الإسكندرية هم من العلماء البارزين المعروفين, يضاف إلى ذلك أن الدكتور عبده ذو ذكاء لماح وذهن وقاد وحافظة قوية, فتهيأت له أسباب التمكن من العلوم التي تخصص فيها, ومما يجب أن ننوه إليه أن الشيخ الدكتور( محمد محمد حسين) العالم المشهور المعروف كان من أهم المؤثرين في حياته العلمية , فقد قرأ عليه في بيته وهو طالب عددا من الدواوين الشعرية منها ديوان( ذو الرمة) أما اتصاله بالدرس اللغوي الحديث فقد تم على كبر،وكان يرحمه الله دائم النصح بتعلم اللغات الأجنبية وكان يقول :(احمدوا الله على أن وجد من يوجهكم إلى ذلك )، نحن تعلمنا ذلك بعد سن الأربعين. أجاد اللغات الألمانية والانجليزية وشيئا فيما أحسب من الفرنسية ، وكان يلقي محاضرات في معهد (جوته) الألماني في الإسكندرية ويطلب منا حضورها ,وقد أقام علاقات ثقافية وثيقة مع الجامعات الألمانية وما زلت أذكر (المستشرق فيشر الصغير) حين زار جامعة الإسكندرية، واستمعنا إلى محاضراته التي ألقاها علينا وكان ممن يناقشه بقوة وصرامة الرجل العالم (بخاطره الشافعي) مدير مركز الأصوات في الإسكندرية, فقد كان هذا الرجل بحق عالماً لا يبارى. ولقد امتد نشاط الدكتور العلمي ليشمل مصر والعالم العربي والإسلامي ، ففي مصر صار علما من أعلامها اللغويين البارزين، كون مع أستاذنا الفاضل الدكتور محمود فهمي حجازي مدرسة لغوية متميزة لا سبيل الآن في هذه العجالة للحديث عنها وعن خصائصها, كانا يتبادلان مناقشة الرسائل بينهما ,واحد يمثل جامعة القاهرة والآخر يمثل جامعة الإسكندرية . ومن المفيد أن نذكر أن الدكتور يرحمه الله أشرف على مئات من الرسائل العلمية في جامعتي الإسكندريةوبيروت العربية خاصة والعربية عامة , وامتد هذا النشاط ليشمل جامعات أوربية، وأذكر أنه سافر أكثر من مرة إلى ألمانيا لمناقشة بعض الرسائل هناك، كما أشرف على بعض الرسائل مشاركة مع أستاذ آخر ألماني. ومما يتصل بنشاطه العلمي أيضاً اتصاله بجامعات (كازاخستان) وغيرها من الدول الإسلامية التي انفصلت عن روسيا ,وأذكر أنه مر بنا في مكة وبصحبته وكيل جامعة الإسكندرية وهما في طريقهما إلى (كازاخستان) لتأسيس قسم للغة العربية هناك ،ومن همته العالية أنه أدى العمرة بدلاً من أن يمكث في مطار جدة ليستقل الطائرة التي تقله إلى كازاخستان. ولو أردت أن أتكلم عن همته في العبادة حين كان يحضر إلى مكة لكتبت في ذلك صفحات كثيرة, لله دره ما أكثر شمائله, فهو بحق شيخ فاضل وقدوة تحتذى. ولا يفوتني أن اذكر أنه حين درس وهو معيد في جامعة بيروت العربية حظي بالقبول هناك وربى أجيالاً, كلها تثني عليه وتدعو له. لقد ترك _ يرحمه الله _ عددا من الكتب التي أثرت المكتبة العربية وذاع صيتها وانتشر أمرها منها : 1- التطبيق النحوي والصرفي وهما كتابان معتبران مقرران في عدد كثير من الجامعات العربية. أخبرني أنه بدأ بهما في لبنان في ليالي رمضان بعد أداء صلاة التراويح ،فكان يشعر بأنه سيقدم شيئا مفيدا إلى المكتبة العربية . 2-إعراب بعض السور القرآنية ،وقد شاركه في ذلك الدكتور بدري عبدالجليل . 3- فقه اللغة في الكتب العربية، وهو كتاب مقرر في عدد من الجامعات العربية. 4- اللهجات العربية في القراءات القرآنية ،وهو متميز في بابه رائد في موضوعه . 5- النحو العربي والدرس الحديث، وهو كتاب له منزلة خاصة عند المشتغلين بعلوم العربية و علم اللغة الحديث . وهناك كتب أخرى ومحاضرات كثيرة ألقاها في النوادي الأدبية والمؤتمرات الدولية ،يضاف إليها تلك المحاضرات التي كان يلقيها على طلبة الدراسات العليا. لقد أفدنا منه كثيرا في فهم نظرية (دي سوسير)التي كانت حديثة الدراسة في جامعاتنا العربية ،وقد شرحها لنا من نصها الانجليزي مقارنا إياها بالظواهر اللغوية العربية, ومثل ذلك حين حدثنا عن (بلومفيلد) و النحو الأرسطي وغير ذلك مما يتصل بالدراسات اللغوية الحديثة, وقد سجلت كثيرا من هذه المحاضرات مع محاضرات الأستاذ القدير عبد المجيد عابدين – بلَّ الله قبره بوابل رحماته – حول عبارة ( هيّ بن بيّ وهيان بن بيان – وعبارة أشد الهلّ و أوحاه ) إذ كان مولعا بالتحليل اللغوي الراقي ومقارنته بالساميات ،فكان يعجب ويطرب ويبدع ،غير أن عوادي الزمن أتت عليها كلها , وكم أتمنى أن يقوم باحث واعد بتناول جهود أستاذنا الفاضل الدكتور عبده الراجحي - يرحمه الله - في كتاب أو أطروحة يجمع فيه كل جهوده اللغوية فالمكتبة العربية بحاجة إلى مثل ذلك . ولا ننسى أخيرا أن نشير إلى أنه تعاقد مع جامعة الإمام محمد بن سعود في الرياض، وألقى كثيرا من المحاضرات في النوادي الأدبية , وشارك في مناقشة عدد من الرسائل في الجامعات السعودية أيضاً ومنها جامعة أم القرى , وقد اتصل حين مكوثه في السعودية مع رجالات العلم والأدب فسعدوا به كما سعد بهم, وكان معجبا بالحركة اللغوية النشطة في المملكة، ومثنيا على إخوانه هنا على ما رآه منهم من كريم الخصال وحميد الفعال, ولحبهم إياه دعوه أكثر من مرة لزيارات علمية ,وأخبرني أن أصول عائلته تعود إلى المملكة العربية السعودية ، وأن واحدا من آل الراجحي اتصل به وتحادثا كثيراً عن تلك القرابة الحاصلة بينهما. رحمك الله أستاذنا الفاضل, وأنزل على قبرك شآبيب رحماته، وتغمدك بألطافه وأدخلك جناته ,وفرَّحنا بلقائك تحت لواء سيد المرسلين عند رب جواد كريم، فأنت كما قال القائل: خيالك في عيني وذكرك في فمي ومثواك في قلبي فأين تغيب * جامعة أم القرى