من حكمة الخالق العليم أنه جعل من السنن الكونية اختلاف عقول الناس ونظرتهم إلى الأمور، وتمايزهم في تحليل الأحداث والأخبار، تمايزاً يؤدي بهم إلى اختلاف النتائج، فقد خلق أناساً يفهمون كل شيء، ويتخذون قراراتهم بأنفسهم، وآخرين عاجزين عن إدراك كل ما حولهم أو بعضه، فترى أحدهم يلجأ إلى تقليد غيره من الذين اتخذوا قراراتهم، ممن يثق في عقله وعلمه. ليس التقليد عيباً في حقيقة الأمر بل هو كما أسلفت سنة كونية، فإن العلوم والمواهب – في الغالب – لا تجتمع كلها لدى كل شخص، أما العقل فقد وُهب لكل شخص، لذا فالعيب الحقيقي هو تعطيل العقل أثناء التقليد، مما يؤدي بالشخص إلى الوقوع في أخطاء مضحكات مبكيات، يرفضها حتى ذلك الشخص الذي قام بتقليده. وأحياناً تطغى العاطفة على العقل فتجعل التقليد آلة لتدمير الكون، فإنك إذا قلدت شخصاً في رأيه بتعقّلٍ دون انجراف للعاطفة أو لموافقته لهواك، لوجدت نفسك مضطراً إلى أن تتوقف من حين لآخر حتى تسأله عن تبريره لهذه المسألة ودليله حول ذلك الحكم – شرعياً كان أو عقلياً – ولاقتنعت بقوله أحياناً ولم تقتنع بقوله أحياناً أخرى، ويكون هذا طريقك الأسلم والأحكم: التقليد، مع الاجتهاد في فهم سبب ما تفعله والمقصد منه، وأما التسليم التام والانقياد الأعمى المصحوب بانجراف عاطفي، فإنه قد يؤدي كثيراً إلى الوقوع في المبالغات المشينة، والخروج عن القول الذي قلدته إلى قول لم يسبقك إليه أحد إلا شيطانك المبتسم، السعيد بجنونك وتخبطك. هذا الكلام له تطبيقات كثيرة، وسأتطرق إلى بعض الأمثلة الحساسة فأخصها بالذكر لانتشارها، مثل بعض الذين يتبنون رفض قيادة المرأة للسيارة مثلاً، يبلغ ببعضهم الحماس لدرجة الحكم على القيادة بأنها أمر محرم شرعاً على نساء السعودية إلى أبد الآبدين، ثم يبالغ الشيطان في (الصهللة عليهم) حتى يخرج منهم من يتعهد بالتصدي لكل من تقود السيارة، وتسمع عبارات كوميدية (مهايطية) حتى تظن نفسك في مسلسل (نمر بن عدوان)، مثل قول أحدهم (والله ما تسوقون وراسي يشم الهوا)، وتجد من هؤلاء من يتهجم على الناشطات متحججاً في ذلك بأنه يحمي الدين والعادات، متسلّحاً بالقول الفاحش الذي لا يمكن أن يجيزه دينٌ ولا عادات، كل هذه القبائح مصدرها تقليدهم لمن اجتهد وقرر رفض قيادة المرأة، ولو أن المشايخ أو القادة الفضلاء اطلعوا على تلك الأفعال المشينة من أتباعهم الجهلة لوبخوهم وربما عاقبوهم عليها، بل لو أن ذلك الشيخ أو القائد قرر بعد كل هذا أن يغير رأيه في المسألة لغيَّر أولئك المتحمسون آراءهم تقليداً له وهم لا يشعرون، ولنقضوا كل (مهايطتهم) وفسقهم الذي اقترفوه في سبيل نصرة ما كانوا عليه. مثال آخر: الذين ينادون بالتفريق المذهبي بين السنة والشيعة، تجد كثيراً منهم يتفانى في إشاعة الكراهية الطائفية ويبالغ في ذلك محتسباً ومتشنجاً على جهل، حتى يصل به الأمر إلى تكفير الشيعة، والدعوة إلى إهدار دمائهم – وهذا اطلعت عليه بنفسي – حتى إنك تقول له: يا أخي حتى المشايخ الفضلاء الذين تقلّدهم وتستدل بأقوالهم ممن ينبذ التقارب بين السنة والشيعة، لا يقولون بتكفير جمهور الشيعة كما تفعل أنت، ولا يجيزون إهدار دمائهم، فتسمع منه في ذلك عجباً، من كلام ينم عن إصرار على الجهل في الأخلاق والعقل، وأحدهم قال لي بالحرف الواحد: والله لو أن الأمر لي لأمرتُ بإبادتهم كلياً وتطهير البلاد منهم، فقلت له: بغض النظر عن صحة كلامك أو خطئه، فلا يوجد لك في هذا القول من المشايخ قديماً ولا حديثاً من تقلده، فقال لم أقلد بل أنا اجتهدت، قلتُ اجتهدت كيف؟ ما أدلتك؟ قال لا دخل لك، فقلت هكذا إذن!، بل أنت متّبعٌ لهواك!.وعلى كل حال، التطبيقات على كلامي كثيرة، فيا قوم لا يكن أحدكم مهزلة، إنما سمي العقل عقلاً ليعقل صاحبه عما يسوء، فاستعملوا عقولكم فيما خلقت له واتركوا اتباع الهوى، فالاحترام واجب لكل ذي رأي، لكن من لا عقل له لا رأي له ولا احترام، وإني لأناشد إخواني: إما أن تقلدوا على بينة ومنهج أو تجتهدوا بأنفسكم دون أن تحتجوا على ضلالكم بقول فلان أو فلان، وهم مما تقولون بريئون.