انباؤكم - د .حاتم بن عارف الشريف - عضو مجلس الشورى لقد كانت قلة قليلة منا ( معشرَ المتخصصين في العلوم الشرعية ) ربما تحدّثَ بعضُنا على خجلٍ وبصوت منخفضٍ عن قضايا ملحّةٍ كثيرة (في قضايا المرأة وغيرها) ، كانت لنا فيها وجهاتُ نظرٍ مخالِفَةٍ لتوجُّهِ الإفتاء الرسمي في المملكة . وكنا نترفّقُ في عَرْضنا لاجتهاداتنا وفي اعتراضنا على فتاواهم ؛ طمعًا في قبولها والاستفادة منها . وكنا في مقابل ذلك الترفُّقِ نتقبّلُ من بعض المشايخ وطلبة العلم حُزْمةً من التصنيفات الجائرة لنا وللتُّهَمِ الجزاف التي كانت تُطلق علينا , وأرجو أن لا نترك ذالك الترفُّقَ ولا هذا التقبُّلَ . ولكننا استمررنا بالتلطُّفِ في المخالفة إلى حدِّ العجز عن الإصلاح ، وإلى حد ضعف التأثير ، وكنا نبرر هذا العجز والضعف بعدة أمور ، نال كلَّ واحدٍ منا نصيبٌ منها ، وهي : 1- إما مجاملة للمشايخ والتيار المتوقّفِ عند اجتهاداتهم فقط وتطييبًا لخاطرهم على حساب الإصلاح الديني ! وهذه معصية لا يجوز أن تستمر ؛ لأن مصلحة الدين تستوجب عدم فعل ذلك . 2- وإما رضوخًا لفكرةِ أنه لا داعي للفَتِّ في عضد المؤسسة الدينية الرسمية ، وذلك من باب تقديمِ دَرْءِ مفسدةٍ أكبر بأخفّ . ولكن أثبتت الأيام أن تقدير أصحاب هذا التبرير للمفاسد والمصالح كان منكوسًا. 3- وإما من باب تحميل المؤسسة الدينية الرسمية مسؤوليةَ الإصلاح والتأثير , ولو برأيٍ فقهيٍّ مرجوحٍ صادرٍ منها (فالاجتماعُ على الرأي المرجوح خير من التفرق على الرأي الراجح) , ولو مع مبالغةٍ من المؤسسة الدينية الرسمية في استخدام قاعدة سدّ الذرائع (الصحيحة في أصلها) , ولو مع ضعف إدراك بعض أعضائها لحاجات المرحلة ,ولو... ! ولكن توالت خسائرنا الإصلاحية ؛ لأننا بذلك قد حمّلنا المؤسسةَ الدينية الرسمية فوق طاقتها , بسبب المبالغة في تقدير حجم التأثير المتوقَّعِ لها . ولذلك تجاوزها القرارُ السياسي , الذي لا يمكنه إلا أن يواكب الحَدَثَ وأن يتعايش مع الواقع , إن أمكنه ذلك بالمؤسسة الدينية (وهذا ما يتمناه) , أو بدونها (وهذا ما لا يتمناه ) . 4- وإما أَخْذًا منا بنصائح الناصحين والمحبين , بتأخير بعض الآراء إلى وقتها المناسب . ولكننا أخطأنا في قبول تلك النصائح غير الموفَّقة , والتي لا تحدد الزمنَ المناسب أبدًا, ولا تريد أن تحدده ؛ لأنها لا تريد إلا الاستمرار في الصمت . وقد تبينَ مؤخرًا أن الوقت المناسب إن لم يكن قد تجاوَزَنا , فهذا هو أوانُه المؤكّد والحاسم . فهل آن أوانُ الصدع بالحق , والإعلان عن اجتهاداتنا الفقهية بالصوت المرتفع , وبالصوت المرتفع وحده . وهل آن الأوان لِنُشِيْعَ بين الناس أن الإصلاح الديني ليس محصورًا في المؤسسة الدينية الرسمية وحدها , بل قد يكون تَحَقُّقُ الإصلاح الديني في اجتهاداتٍ آتيةٍ من خارج المؤسسة الدينية الرسمية ؛ لأن تلك الاجتهادات الآتية من خارجها قد تكون هي الأرجح , أوهي الأصلح لزمننا . لا أشك في أن هذين السؤالين التقريريين جوابهما هو : نعم , لقد آن الأوان , أو نرجو أن نستطيع إدراك أوانه الذي قد فات . ولكي يكون هذا المقال بدايةَ الإصلاح , أودُّ ذِكْرَ بعض ملاحظاتي على المؤسسة الدينية الرسمية , ببيان بعض سياساتها المرجوحة شرعيا في اجتهادي : أولا :المبالغة في سد الذرائع , بسبب خوفٍ على المجتمع ,وهو ما يُسمّيه البعض وصايةً عليه : بأننا لو فتحنا للمجتمع المجال تجاوَزَ الحدَّ المسموح إلى غير المسموح , ولذلك يجب (حسب اجتهادهم) وَضْعُ حدٍّ احتياطي من الممنوعات , لكي لا يصل الناس للحد الحقيقي . وهذا المنطلق الفقهي (وهو أصل سد الذرائع) ليس مطلقا بغير شروط , بل لا بد من توفر شروطٍ لصحته , ولا أجد هذه الشروط متوفرة في العديد من الفتاوى والاجتهادات . ثانيا :مصادرة الاختلاف السائغ , والتشنيع عليه ؛ بحجة أنه غير سائغ وشاذ وبدعوى مخالفته للإجماع (دون اتضاح الرؤية لضوابط تَشْذِيذِ قول واطِّراحِه) , أو بحجة أن القائلَ به من متتبعي رُخَصِ الفقهاء (ومن تتبع رخص الفقهاء تزندق) , أو بحجة أنها قولٌ مرجوحٌ , ولا يهم أن يكون راجحًا عند فقيه آخر . ثالثا : بعض تلك السياسات مرجعها إلى خلط التقاليد والأعراف بالدين (مثل معضلة: عباية الرأس أو الكتفين) , واتّهمْنا من يخالفُنا فيها بشتى التهم , كالتغريب أو قلة الغَيرة (الدياثة) , وغير ذلك من التهم . ولقد كنت أذكر خلافي لذلك كله بصوت يعلو قليلا وينخفض كثيرا ؛ لا خوفًا من ضغوض التهميش , الذي لا يمكن في زمن الفضاء المفتوح والشبكة الدولية المتاحة لكل أحد . ولا وجلاً من بَغْيِ هجومٍ متوَّقع يقصد الإسقاطَ وتشويهَ السمعة بشتى الوسائل : من تجهيلٍ وتبديع , إلى غير ذلك من صنوف الفجور في الخصومة . وإنما كان الصوت ينخفض كثيرًا : مراعاةً مني للمصلحة العامة المتمثلة في الحرص على وحدة الصف , أو تسامحًا مع الرأي القائل بأن المخالفين قادرون على تدارك الأخطاء إن وقعت , وأن جبهة الممانعة قوية , فلا داعي لإضعافها من الداخل . ويبدو أنني أخطأت في ذلك كله , وأنه ما كان لصوت الإصلاح أن ينخفض , وأن السكوت كان خطيئة لا تجوز. فمثلا : كنتُ قد كتبتُ فتوى مُطَوَّلةً فصّلتُ فيها الكلام عن الاختلاط بين الذكور والإناث , وبينتُ أن الاختلاط منه ما هو جائز ومنه ما هو محرم , وبينت فيه أن كثيرا من الناس فيه بين إفراطٍ وتفريط . ولا أعلم طرحًا شرعيا سابقا لذلك الطرح فَصَّلَ في شأنِ الاختلاط ذلك التفصيل . ومع أن تلك الفتوى كانت من قبيل الصوت المنخفض في الإصلاح , وهي تدعو لانضباطٍ شرعي مؤصَّلٍ في موضوع الاختلاط ؛ إلا أنها لم تحظَ بقبولٍ واسع لدى المخالفين من الشرعيين , الذين ما زالوا يغالطون ( في شأن الاختلاط ) الأدلةَ الشرعية ، ويتجاهلون الحاجةَ الملحة لإعادة النظر في عاداتنا التي مزجناها بالدين . فكانت تلك الفتوى مصدرَ امتعاظٍ عند شريحة كبيرة فيما ظهر لي , وتجاهلٍ أكبر من شريحة أكبر . حتى جاء الوقتُ الحاضر , فأصبح بعضُ من كان ينكر تلك الفتوى يتبجح الآن بالتفصيل الذي مضى لي على ذكره زمان , ووجد فيها بعضُ المتجاهلين لها سابقا مخرجًا من أزمةٍ وحلاًّ لمشكلةٍ . ولو أنهم راجعوا أنفسهم قبل هذا , وأدركوا متغيرات العصر , لعرفوا أن موقفهم السابق من ذلك الرأي كان خطأ شرعيا سيؤدي إلى خطأ شرعي في الاتجاه الآخر. وفي قضية تأنيث المحلات النسائية : كنت أصرح بدعمي لهذا المشروع بضوابط , لكن الصوت العام كان هو الرفض والممانعة ,كالعادة , دون محاولة تَفَهُّمٍ لأهمية قبوله بضوابط. وفي قضية الطائفية : تكلمتُ بصوت مرتفع , في الفضائيات , وفي أكثر من مقال , منها مقالٌ مطول نشرتْه بعضُ المواقع الشبكية , ثم طُبع ونُشر مجانا (بدعم من بعض المحسنين الفضلاء) . فكنتُ أحذًّرُ من خطر الطائفية , وأبين أنها الورقةَ الرابحةَ بيد المتربص الخارجي , وأن الاعتدال غائبٌ في شأنها عن الساحة الشرعية من الجوانب كلها (من جانب السنة ومن جانب الشيعة أيضا وغيرهم) . وما زال الرفض والممانعة مستمرَّينِ حتى خرج تقرير لجنة حقوق الإنسان السعودية يطالب بإعطاء الشيعة حقوقهم . فأرجو أن لا تستمر الممانعة , إلى أن تقع الفتنة الطائفية , أو إلى أن تتجاوز الأقليةُ الشيعية حقوقَها إلى ما ليس من حقوقها . وفي مجال التكفير : كنت قد نشرتُ فتوى صريحة أقيِّمُ فيها دعوةَ الشيخ محمد بن عبد الوهاب (رحمه الله) , حسب زمنها , وبما لا أعرف طريقةً هي أقوى منها في الدفاع عنها, وأَدْعَى لبقاء أثرها الطيب ؛ لأنها الإنصاف والعدل . ولأجعل هذه الفتوى مني مدخلا لمراجعاتٍ سلفيةٍ سُنية لتراثنا البشري غير المعصوم في مسائل التكفير والتي لي ولغيري فيها اجتهاداتٌ عديدةٌ نخالف المشهور بيننا فيها اليوم , نشرتُ أحدهَا في كتابي (الولاء والبراء) وفي مقدمة (التعامل مع المبتدع) , ومازلت أصرِّحُ بفتاواي فيها لكل سائل, وأناقش كل معترض . ولا أذكر هذا ؛ إلا لكي لا أُطالبَ بالدليل على ما أقول وبأمثلة لما أدّعيه. وقد قُوبلت تلك المراجعات بهجوم متوقَّع , لا يهمني الآن منه ؛ إلا التذكير بواجب إعادة الحسابات , والمبالغة في محاسبة النفس , فمصلحةُ الدين فوق حظوظ النفس . فمتى سنعلم أن الإصلاح الديني الحقيقي هو الانتصار الحقيقي لمكانة المؤسسة الدينية الرسمية , وفي استمرار أثرها المبارك ؛ سواء جاء الإصلاح منها أو من خارجها ؛ لأن مكانة المؤسسة الدينية الرسمية ليس سلطانا يقوم بالقوة , وإنما تقوم مكانتها بإصلاحٍ لشؤون الدين والدنيا , ويحقق للأمة (قيادةً وشعبا) مبتغاها في سعادة الدارين وفي العز والمجد والنصر والتمكين . ويجب أن نتذكر : أن فضيلة الصدع بالحق لا تنحصر في الصدع به أمام الحاكم , بل من الصدع بالحق أيضا الصدعُ بالحق أمام العلماء والتيار الديني السائد , بغرض الإصلاح , ومن المؤهل للإصلاح . ------------------------- فهذا نقاش قد جرى بين أحد طلبة العلم والشريف حاتم العوني وتنشره انباؤكم رغبة في توضيح ماأراده الشيخ في مقالته ,, - بحيث ان كلام الشريف حاتم باللون الأخضر , وكلام طالب العلم باللون الأسود : شيخنا الشريف أبا محمد حاتم بن عارف العوني.. سلام الله عليك ورحمته وبركاته.. وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته وبعد.. وبعد : فأحببت أن أجعل الجواب أثناء خطابك الرزين الهادئ , حرصا على عدم التطويل . فإني أحمد الله سبحانه إليك هو الموفق وهو الناصر والمعين.. هذا هو رأيي في مقالتكم الأخيرة،وقد توقفتُ كثيراً في إرساله لكم ؛وسبب التوقف هو إرادة الأناة في إدارة الأمر على جميع وجوهه،ثم بعض الرهبة من أن أعجل بخلافك خلافاً يُفسد ما بيننا (من جهتي على الأقل) من المحبة والمودة.. ثم انتهى أمري إلى أن مثلكم ليس ممن يفرح بالموافقة المجردة أو تحزنه المخالفة المجردة،وليس مثلكم ممن يُحب من أصحابه وتلاميذه أن يكونوا تبع له من غير بحث واجتهاد مستقل.. علم الله أني لا أريد إلا ذلك . فإذا تقرر ما تقدم وانتهى تقديمي للطمع في سعة صدركم وسماحة نفسكم = أقول : الفكرة الرئيسية للمقال تتركز في توصيف واقع العلماء الرسميين من جهة منهجهم الفقهي وما فيه من مواطن ضعف أدت إلى تأخر المملكة في مسيرة الإصلاح؛لوقوف الآراء الفقهية المبنية على ذلكم المنهج عقبة كؤوداً في طريق الإصلاح بما تُحدثه من موجة متشددة لا يصح أن تكون منهجاً عاماً،ثم هي تؤدي مع المتغيرات الزمانية إلى ابتعاد القرار السياسي عن الجهة الدينية مما يُنذر بخطر وبيل ليس أقله إقصاء الحل الإسلامي واستبدال حلول لا دينية به وترون أن إرهاصات ذلك قد لاحت،وترون أن طرح منهج بديل يقم على أسس فقهية معتبرة أكثر ابتعاداً عن مواطن الضعف التي وصفتموها .وإن لم يكن بديلاً تاماً فلا بأس من إظهاره بقوة ليوازن ذلك المنهج الرسمي المُعَوِق.ثم مثلتم بمسائل ذكرتموها كأمثلة لطرحكم الفقهي المخالف لذلك المنهج العام والذي ترون أنه لو نُشر في الناس جعل منهجاً عاماً = لساعد على دوران عجلة الإصلاح وقلل من إمكانية ابتعاد القرار السياسي عن الحل الإسلامي. إذا تقرر ذلك = فإني أرى أن مقالكم الأخير فيه خطأ يفوق ما فيه الصواب وتقرير ذلك في النقاط التالية : 1- قولكم : ((وكنا نترفّقُ في عَرْضنا لاجتهاداتنا وفي اعتراضنا على فتاواهم؛ طمعًا في قبولها والاستفادة منها)). قلت : الترفق ليس مجرد طريق يُلجيء إليه الطمع في القبول ،بل هو مسلك لازم في تلك الأبواب لعدة أسباب : 1) أن الرفق مطلب شرعي لا يكون في شيء إلا زانه ولا يُنزع من شيء إلا شانه. 2) أن تلك الفتاوى الرسمية التي تُخالفونها = لا تخرج قطعاً عن كونها أقال سائغة يسعُ فيها الخلاف ،ولا موضع لغير الرفق أصلاً مع هذا الجنس من الخلاف. 3) أن هؤلاء هم ليسوا من جنس علماء السلطة من أهل البدع والضلال بل هم إخوانك يجمعك معهم موارد الاتفاق في القطعيات جميعها،والهوة بينك وبينهم أضيق من الهوة بينك وبين أي فئة من فئات علماء الأرض = ولا داعي للرفق يفوق هذا. 4) مما يُثبته التاريخ ويُعضده الواقع : أن العلماء الرسميون وأولي الأمر والسلطان = لا يُجدي معهم الصدام فتيلاً ولاشيء أنفع معهم من الرفق والمدارة والسياسة واللين ،ولو تحفظون موضعاً واحداً آتت فيه الغلظة أُكُلها = فأحب لو دللتمونا عليه. للرفق وجوه وله درجات : فالفتوى التي تخالف الهيئة , دون تصريح بمخالفتها , ودون تتبع لاستدلالاتها بالنقض = رفق . والفتوى التي تصرح بالمخالفة , وتتبعُ الاستدلالات بالنقض , مع مراعاة أدب الاختلاف = رفق أيضا ؛ إلا عند من يتعصب لها , أو عند مَن يظن مِن أعضاء الهيئة أنه لا يحق لأحد أن يخالفهم , كما حصل مع بيان الدبيان في شأن الأخذ من اللحية . ونشر الفتوى المخالفة في موقع شبكي فيه من الرفق ما ليس في نشره في الفضائيات والصحف السيارة , والأخير ما زال رفقا . فالذي أعلنت عن وجوب تحققه : الانتقال من درجة في الرفق إلى درجة أخرى . كما أن أمثال الدبيان الذي أُوذي وظُلم , كان يجوز له أن يترك الرفق وينتصف ((إلا من ظُلم)) . 2- قولكم : ((وكنا في مقابل ذلك الترفُّقِ نتقبّلُ من بعض المشايخ وطلبة العلم حُزْمةً من التصنيفات الجائرة لنا وللتُّهَمِ الجزاف التي كانت تُطلق علينا, وأرجو ألاّ نترك ذلك الترفُّقَ ولا هذا التقبُّلَ)) قلت : لم يعد للفعل المضارع الملون بالأحمر موضعاً فقد تركت الترفق بالفعل وبنص كلامك الآتي. ما هو وجه ترك الرفق في المقال ؛ فليس فيه إلا ما سبق وذكرته أنت : 1- أني سأصرح بمخالفتهم . 2- أن الهيئة أصبحت عاجزة عن كثير من الإصلاح , وحاجزا دون إصلاح غيرها . 3- وأن ذلك راجع إلى أخطاء منهجية تجعل الخطأ يتكرر منهم . أعترف أن المقال خرج عن سياق التعظيم السائد لها , وهذا ما يُوقع في النفس أنه ليس فيه رفق . ولكن مجرد الخروج عن ذلك السياق السائد لا يعني أن الرفق منزوع , كما لا يعني خروجا عن كل تعظيمٍ لهم .والسؤال المهم : هل تحفظون موضعاً واحداً صُنفتم فيه تصنيفاً جائراً وألقيت عليكم تهماً جزافاً من قِبَل علماء الهيئة أو اللجنة ؟ إن كان = فقد تمت لك سلامة العبارة. وإن لم يكن وكانت تلك التهم من غيرهم وكان المسوغ لكم في عبارتكم أن هؤلاء المصنفون جارون في نفس مضمار العلماء الرسميين= لكان معيباً إجمال الكلام فالقاريء يرى أنكم تخاطبون جهات الإفتاء العليا لا يرى إلا أنكم تقصدونهم بلفظ المشايخ(المصنفين لكم والمتهمين)،وإذا كان لم يقع من قبل كبار العلماء شيء من ذلك = لم يعد للكلام في هذا السياق موضع. التصنيف قد وقع من بعض أعضاء الهيئة شفويا , وفي مجالس عديدة , ومنهم من كان يحذِّر من هؤلاء الذين يخالفونهم , كما يُحذَّر من سلمان العودة , ويُرد عليه . ولولا أن زمن البيانات المؤثرة قد ذهب , لرأيت بيانا إقصائيا جديدا . وبذلك أصبح لهذا الكلام في هذا السياق موضع , كما أن صورة من صور التصنيف المكتوب قد وقعت , بردود مكتوبة من بعض تلامذتهم , ومع تقريظهم لذلك المكتوب , أو مع اطلاعهم عليه , دون إنكار لسوء أدب الكاتب , بل مع تأييده والثناء عليه . 3- قلتم : ((ولكننا استمررنا بالتلطُّفِ في المخالفة إلى حدِّ العجز عن الإصلاح، وإلى حد ضعف التأثير)). قلت : ليس صحيحاً،بل ربما كانت آراؤكم تكتسب أرضاً جديدة ولكن لا تشعرون،وغاية ما أخشاه أن تكونوا لا تعقلون الإصلاح إلا أن يتم على وجهه وأن يؤول أن يكون و رأي السلطان النافذ بحيث ترونه سارياً بأعينكم في الناس. وآه إن كنتم تظنون ذلك .. قولك : «ليس صحيحا» أكاد لا أفهمه , فعامة القرارت التي تجاوزت فيها الدولةُ رأيَ هيئة كبار العلماء إلى غيره , لم يكن لغيرهم من العلماء أي دور في محاولة ضبطه بأي ضبط شرعي , ولو كان ضبطا يخالف الهيئة . والسبب في ذلك : أن الهيئة في نظر التيار السائد هي الدين , وهي عند نفسها كذلك , وما يخالفها ليس دينا . فلسان حال الدولة يقول : فما دام أي إصلاح من خارج الهيئة ستنظر إليه الهيئة على أنه مخالف للشريعة , وبالتالي لن يكتسب شرعيته , فلا داعي لأخذ ضوابط له من غيرهم . ولو أخذت الدولة تلك الضوابط من علماء خارج الهيئة , ستجد الردود والتأزمات التي تُفقده أي استقرار ديني لدى الناس .شيخنا المبارك.. ليس كل مصلح يتم له أن يُعاونه سيف السلطان،وأشهر مصلح وأعظمه أثراً في التاريخ الإسلامي- في نظري- (شيخ الإسلام)لم يتم له ذلك إلا لسويعات وأيام وأُعقب من وراء ذلك ما تعلم ،ومات وحرقت كتبه وشرد أصحابه،ثم أخرج الله لنشر كتبه وبعض أفكاره أناساً كانوا يوم مات هو في أصلاب آبائهم. إذا ذهبنا إلى من عضده سيف السلطان كأحمد : هل تراه أدركه في حال تشبه أن تدرك مثلها ؟ لا والله بل كان البون بينه وبين مخالفيه عظيماً في الاعتقاد والسنة والسيرة والسلوك والمهابة والمحبة (وليس كذلك البون بينك وبين مخالفيك) وهذا فارق مؤثر في نظر السلطان وحساب العامة. وكان إصلاح المصلحين في مجالات ترجع إلى قطعيات يريدون رد الناس فيها إلى دينهم رداً جميلاً (وليست كذلك مجالات إصلاحك). ثم لنر هل كان تحصيل معاونة السلطان بمثل تلك المجابهة العظيمة التي فعلتها أم حصل لأصحابه نتيجة لسيرهم الطويل على درب الإصلاح = فكافأهم الله مكافأة يكافيء المصلحين بها وربما منع منها آخرين كما مثلنا. والاستثناء الوحيد هو دعوة الإمام المجدد والتي طلب فيها عون السلطان صراحاً ،ويُقال فيها ما قيل آنفاً : العدو غير مخالفيك والزمان غير الزمان .. ليس المقصود هو سيف السلطان , ولكن بيان وتقرير أن الاجتهاد الآتي من خارج الهيئة والمعارض للهيئة , هو أيضا اجتهاد شرعي , ما دام خلافه للهيئة سائغا . نريد أن يعرف الناس وأن تعرف الدولة ذلك ؛ لكي لا تتعثر مسيرة الإصلاح باجتهاد واحد يعارض الإصلاح الشرعي اللآتي من خارج الهيئة .4- قلتم : [ولكننا استمررنا بالتلطُّفِ في المخالفة إلى حدِّ العجز عن الإصلاح، وإلى حد ضعف التأثير، وكنا نسوّغ هذا العجز والضعف بعدة أمور، نال كلَّ واحدٍ منا نصيبٌ منها، وهي: 1- إما مجاملة للمشايخ والتيار المتوقّفِ عند اجتهاداتهم فقط، وتطييبًا لخاطرهم على حساب الإصلاح الديني! وهذه معصية لا يجوز أن تستمر؛ لأن مصلحة الدين تستوجب عدم فعل ذلك. 2- وإما رضوخًا لفكرةِ أنه لا داعي للفَتِّ في عضد المؤسسة الدينية الرسمية، وذلك من باب تقديمِ دَرْءِ مفسدةٍ أكبر بأخفّ. ولكن أثبتت الأيام أن تقدير أصحاب هذا التبرير للمفاسد والمصالح كان منكوسًا. 3- وإمّا من باب تحميل المؤسسة الدينية الرسمية مسؤوليةَ الإصلاح والتأثير, ولو برأيٍ فقهيٍّ مرجوحٍ صادرٍ منها (فالاجتماعُ على الرأي المرجوح خير من التفرق على الرأي الراجح), ولو مع مبالغةٍ من المؤسسة الدينية الرسمية في استخدام قاعدة سدّ الذرائع (الصحيحة في أصلها), ولو مع ضعف إدراك بعض أعضائها لحاجات المرحلة, ولو...! ولكن توالت خسائرنا الإصلاحية؛ لأننا بذلك قد حمّلنا المؤسسةَ الدينية الرسمية فوق طاقتها, بسبب المبالغة في تقدير حجم التأثير المتوقَّعِ لها. ولذلك تجاوزها القرارُ السياسي, الذي لا يمكنه إلاّ أن يواكب الحَدَثَ وأن يتعايش مع الواقع, إن أمكنه ذلك بالمؤسسة الدينية (وهذا ما يتمناه), أو بدونها (وهذا ما لا يتمناه). 4- وإمّا أَخْذًا منا بنصائح الناصحين والمحبين, بتأخير بعض الآراء إلى وقتها المناسب. ولكننا أخطأنا في قبول تلك النصائح غير الموفَّقة, والتي لا تحدّد الزمنَ المناسب أبدًا, ولا تريد أن تحدّده؛ لأنها لا تريد إلاّ الاستمرار في الصمت. وقد تبيّنَ مؤخرًا أن الوقت المناسب إن لم يكن قد تجاوَزَنا, فهذا هو أوانُه المؤكّد والحاسم. فهل آن أوانُ الصدع بالحق, والإعلان عن اجتهاداتنا الفقهية بالصوت المرتفع, وبالصوت المرتفع وحده؟ وهل آن الأوان لِنُشِيْعَ بين الناس أن الإصلاح الديني ليس محصورًا في المؤسسة الدينية الرسمية وحدها, بل قد يكون تَحَقُّقُ الإصلاح الديني في اجتهاداتٍ آتيةٍ من خارج المؤسسة الدينية الرسمية؛ لأن تلك الاجتهادات الآتية من خارجها قد تكون هي الأرجح, أوهي الأصلح لزمننا؟ لا أشك في أن هذين السؤالين التقريريين جوابهما هو: نعم, لقد آن الأوان, أو نرجو أن نستطيع إدراك أوانه الذي قد فات.] قلت : وذا هو الخطأ المنطقي الأكبر في بناء المقال ؛ذلك أن كل ذلك إنما يُساق في حالة كونكم كتمتم آرائكم ولم تُذيعوها بمرة ،الآن أعد قراءة ما كتبتَ ستجده مُتسقاً مع حالة الكتمان هذه. أظنك الآن قد عرفتَ وجهة نظري , التي لا تجعل ما سبق هو الخطأ المنطقي الأكبر في بناء المقال , أولا : لأن الذي كان يحصل سابقا ليس هو كتم الآراء , ولكن الذي كان يحصل : هو ذكر آراء ملغية عن ساحة الإصلاح ؛ لأنها لا تمثل (الدين) الذي تمثله هيئة كبار العلماء . فكان من المهم لتكون تلك الآراء فاعلة أن نقول : آراء الهيئة آراء معتبرة ؛ لكن ما يخالفها معتبر أيضا ؛ إذا ما تحقق في رأي الهيئة ورأي من يخالفها شروط متحدة بينهما لاعتبار القول , ليس من بينها أن مجرد خروج القول من الهيئة يلزم منه اعتباره , وليس منها أن مجرد خروج القول عن رأي الهيئة يلزم منه عدم اعتباره . هذا التقرير كان لا بد من جعله واقعا عمليا , لا مجرد شعار يُكذِّبه الواقع العملي = أن نصرح بما صرحت به : أن أحكام الهيئة ليست هي أحكام الدين , وأنها اجتهاد في إدراك أحكام الدين , كالاجتهادات الآتية من خارجها . ثانيا : أن هناك آراء أخرى (لي ولغيري) كنا لا نريد ذكرها ؛ لأن مفسدتها ستكون أكبر من مصلحتها , بسبب ذلك التصور الخاطئ عن كل رأي يخالف الهيئة : فلن تجد آراؤنا تلك أي صدى في الإصلاح , ولن يقف الأمر عند ذلك , بل سوف يزداد إقصاؤنا وإبعادنا بالتهم والتصنيف ؛ لمجرد أننا لم نوافق الهيئة .فمثلاً : أقول : إنما تكون مجاملاً ومطيباً وواقع في معصية لفعلك ما يتعارض مع مصلحة الدين = إن كنتَ كتمت آرائك... ولو كنتَ كتمت آرائك لصح بالفعل أنك أعملتَ فكرة عدم الفت في عضد المؤسسة الرسمية. ولو كنت كتمت أقوالك = لكنت قد أعملت فكرة (الاجتماعُ على الرأي المرجوح خير من التفرق على الرأي الراجح)..لكن الحال أنك لم تجتمع على المرجوح ..بل صرحت برأيك.. إذاً : فقد أبديت ما ظهر لك أن تُبديه من آراء مخالفة للمؤسسة الرسمية ولم يمنعك أحد أن تنشر بقية آرائك إن كانت هناك بقية،ونشرت ذلك في المنتديات والمجالس والصحف،وربما بحكم موقعك السياسي = طرحتها على الجهة السياسية ونخبة الشورى= فأين الكتمان ؟؟ هذه هي مشكلة المقال الرئيسية التي لا أجد لها حلاً .. أرجو أن تكون قد عرفت الآن (بما سبق) وجهة نظري , والتي إن لم تكن حلا , فقد تكون عذرا لي فيما يسوغ فيه الاختلاف .أنت يا شيخنا تكلمت بالفعل وصدعت بما عندك من الحق..والصدع بالحق لا يُنافيه الترفق والتلطف ورسول الله صلى الله عليه وسلم قد قيل له : اصدع بما تؤمر،فصدع وهو أرفق الناس،والآية وسياقها = نص في أن الصدع ضد الكتمان والإسرار بالدعوة ،وليس هو مرادفاً لترك التلطف والرفق ،وليس هو مرادفاً لرفع الصوت أعلى أو المجاهرة أعلى أو أي شيء مما لا أدري مما قد تفسر به الصدع.. فالصدع ضد الكتمان وأنتَ لم تكتم..فما غرض المقال ؟؟ إذن غرض المقال : ليس هو مجرد ذكر رأي .. وكفى , بل ذكر رأي يعترف له قطاعٌ كبير من الناس , والهيئةُ ينبغي أن تكون هي أول الناس , أنه مادام قد تحققت فيه شروط اعتبار القول = فهو اجتهاد محترم , وهو لذلك يمكن أن يكون حلا إسلاميا . تقول : ((فهل آن أوانُ الصدع بالحق, والإعلان عن اجتهاداتنا الفقهية بالصوت المرتفع, وبالصوت المرتفع وحده؟)) قلت : لا أفهم.ما معنى الصوت المرتفع ؟؟ تؤلف كتباً في تلك المسائل ؟ من منعك؟؟ وأي شيء في ذلك يمنع أن يكون مصحوباً بالرفق والتلطف ؟؟ تُلقي محاضرات ؟؟ من منعك؟؟ وأي شيء في ذلك يمنع أن يكون مصحوباً بالرفق والتلطف ؟؟ أي طريقة أخرى من طرق الصوت العالي ، من منعك منها ؟؟ وأي شيء فيها سيُمنع أن يكون مصحوباً بالرفق والتلطف ؟؟ أظن أن الإجابة عن كل ذلك قد اتضحت الآن .أم الصوت العالي تريد بها التصريح الزائد بمخالفة المؤسسة الرسمية مباشرة والتصريح بأثر فتاوها على الإصلاح ..(برضه) لا إشكال في هذا ولم يكن فعل ذلك بحاجة لهذا المقال (المشكلة) وأؤكد : يُمكنك فعل هذا بالرفق والتلطف ولا تلزمك الشدة فيه أصلاً ولا تكاد تجدي،وحتى لو اشتددت لن يمنعك أحد وستكون تُناقش وتشتد في حزم مفرقة تُشيع أقوالك في الناس أكثر،بل وتجد في المسألة بعد المسألة من يوافقك فيها من الرسميين ولو واحد في كل مسألتين،وهكذا ..تُبين ما معك من الحق برفق وتلطف هو أنفذ من ضده..أما هكذا بهذا المقال فقد أتيت بقارورة هشة جمعت فيها أمرك ثم ألقيتها بين أرجل خصومك.. ليست المسألة مسألة موافقة في مسألة أو مسألتين , ولكنها في تعديل تصور عام عن الهيئة وما يخالفها ؛ لكي لا يُلغى الاجتهاد المعتبر من قائمة الحلول الإسلامية , لمجرد أنه خالف الهيئة . وبالمناسبة : لكي تعلم الفرق بين ما أرمي إليه وما ذهبتَ أنت إليه : فإني أوافقك في أنه قد يوافقني بعض أعضاء الهيئة في مسألة أو مسألتين , وهذا حصل فعلا ؛ لكنهم هم أنفسهم لا يجرؤون على التصريح بذلك !!! أرأيت إلى حد بلغت سطوة التصور العام عن الهيئة , حتى نالت بعض أعضائها أنفسهم . ولا أريد أن أذكرك بما حصل للشيخ ابن منيع وغيره , ممن خالفوهم . ثم هل علمتَ الآن ما هو الفرق بين ما هو كائن وما أسعى إليه لكي يكون .5- ثم تقول : ((ولكي يكون هذا المقال بدايةَ الإصلاح, أودُّ ذِكْرَ بعض ملاحظاتي على المؤسسة الدينية الرسمية, ببيان بعض سياساتها المرجوحة شرعياً في اجتهادي)) يا شيخنا : هل تكون البداية تذكرة ؟؟ مادام هناك تذكرة فليست هذه هي البداية ،وهذا هو ما أؤكده لك أنت بدأت الإصلاح منذ زمان،وأعلنتَ مخالفاتك منذ زمان،ويُمكن أن تؤكد عليها كيف شئت وأن تنبه وتصرح –إن رأيت- أكثر بمخالفيك ولكن بدون تلك المقدمة الساخنة التي تُذهل الناس عن الحق الذي معك،وأيضاً: لا يمتنع أن يكون كل ذلك بالرفق والتلطف. هذه المقدمة الساخنة كانت مقدمة ضرورية , لكي لا يُقال لي ولغيري كلما خالفنا الهيئة : قولكم بالطل لأنكم خالفتم الهيئة , ولنصحح التصور العام عن الهيئة , على ما سبق بيانه , فيعلم الجميع أن الحل الإسلامي ليس محصورا في الهيئة .6- شيخنا : الرفق ليس طريقاً يفعله الرجل حيناً ويتركه حيناً بل هو سبيل لازم على الدوام وهو خير كله..أما الشدة أحياناً فإنها لا تنافي الرفق ويكون الرفق مع الشدة وتلك مسالك تحتاج من المصلح لتأمل؛كي لا يُضيع ثمراته. وقد اجتهدت في ذلك , وأرجو أني وُفقت . 7- شيخنا : بمقالك هذا لا أحسب إلا إنك ستخسر العلماء وطلبة العلم (السواد الأعظم منهم) ولن تكسب السلطة؛لأن حكام المملكة أذكى من أن يقعوا في خطأ مصر بأن يأتوا بمؤسسة دينية يرفضها عامة المتدينين،والناس عندكم قد ارتبطوا بتلك الأسماء والسياسة لا تُحب المغامرة،ومن العقائد الأمنية الثابتة : أن الثابت المنغلق على أفكار دينية (غير ذات خطر عسكري) هو أفضل رجال الدولة الدينيين،لأن أصحاب الإصلاح والتفكير الحر ؛ربما قادهم تفكيرهم الحر إلى أن يوصلهم تفكيرهم لقوائم العرش.ومن أدبيات السياسة في اختيار العلماء : أخذ المستكين الهاديء فهو طوع البنان.. أما خسارة العلماء وطلبة العلم , فأنا أتوقع ذلك , وأتوقع أذى شديدا ؛ لولا ظني بأن ما صدعت به هو الحل الوحيد لما ركبت هذه الأخطار . وأما كسب السلطة : فلن أكسبها ؛ إلا إذا أيدتني على أن ما أدعو إليه من أن تصحيح وضع الهيئة هو الحل الصحيح . 8- وهبك كسبت الحكام ،هل تظن أنك ستكسبهم للإصلاح الذي تريده.لا والله بل يكسبوك للإصلاح الذي يريدونه هم.حتى إذا استعصيت عليهم مرة استبدلت وأتوا بقوم آخرين. ظني بالحكام أنهم خير من ذلك , وهذا ما يلزم كل مسلم تجاه كل مسلم (حاكما كان أو محكوما) . فكل مسلم لا يترك حكمَ الإسلام في أمر ؛ إلا وهو يعتقد أنه هو الحكم الإسلامي (فيكون متأولا) , أو يتركه معصية (يعلم أنها معصية) لكنها تحقق له مصلحة . فإذا أقنعته بأن هذه المعصية إن حققت له مصلحة فستحقق له مفسدة أكبر منها , فلا يُوجد عاقل سوف يصر على تلك المعصية ؛ خاصة إذا كانت قرارا مثل القرارات العامة للحكام , وليست مجرد شهوة شخصية ؛ لأن مفسدة القرار العام مفسدة عامة تُفسد على الحكام نظام حكمهم واستقرار دولهم . ولو أدركنا هذا تماما مع الحكام ؛ لأحسنا بهم الظن الذي يستحقونه بمقتضى اعتقاد أنهم مسلمون (دون حاجة إلى زيادة مقتضيات أخرى) .9- المصلحون عادة يؤذوا ويُحاربوا ،لكن : لا يجمل بالعالم أبداً أن يطلب ذلك،وأن يفعل ما يعلم يقيناً أنه يؤدي إليه،بل متى استطاع تجنبه=فعل؛كي لا يضر فكرته.والاستضعاف والإيذاء إذا أتى ممن هم من أهل السنة في الجملة = كان كشف دلالته على الإصلاح للعامة وطلبة العلم = عسر جداً وكان الرمي بالشذوذ وحب مخالفة أهل السنة = أقرب. لا يطلب الأذى عاقل ؛ إلا إذا ظن أن الواجب الديني لا يتحقق إلا به ؛ كالجهاد في سبيل الله . 10- اجتهادك في التوقيت ربما كان غير سائغ ،والعالم العاقل لا يأتي في ذروة معركة الليبراليين مع العلماء في دفاعهم عن وجهة نظر شرعية سائغة –وإن خالفتها- فيسوق ما يفتُ عضدهم وإلا اتخذوك مطية واستكثروا بك وكثروا سوادهم.وبعد ذلك : فالتُهمة بالاستغلال غير الشريف للأحداث لطرح منهجك الفقهي والعلمي = حاضرة وهي أسرع قبولاًفي قلوب الناس،وقارن بموقف شيخ الإسلام لما عُرض عليه قتل خصومه من قبل السلطة،إنه حتى لم يقل اعزلهم بل قال له : إنك لا تجد مثلهم؛لأن الرجل كان أنزه من أن يستغل التقلبات السياسية استغلالاً غير شريف،وأعقل من أن يفتح للسلطان باب انتهاك حرمة العلماء –ولو كانوا مضلين-لأن فطنته قادته إلا أن منجل السُلطان إذا أُعمل لا ينتهي إلا وقد حصد الجميع . هي موجة تغييير , وموجة التغيير إذا بدأت , ركبها المفسدون ؛ ليفسدوا . وركبها المصلحون ؛ لكي يصلحوا . والتخلّفُ عن ركوبها سيكون أثمن هدية للمفسدين ؛ لأنهم سيستحوذون عليها , وستكون لهم وحدهم . وأكبر مشكلة عندما يكون أهل الصلاح لا يعرفون شيئا عن تلك الموجة , وما زالوا يعيشون على آثار موجة قد تبددت على صخرة الماضي منذ زمن . فلا ينتبهون ؛ إلا والموجة الجديدة قد جرفتهم خارج ساحة التأثير . وأما استغلال أهل الباطل لبعض المواقف فإنه لم ينته ولن ينتهي , وقد استغل الكفار والمنافقون والمبطلون (قديما وحديثا) آياتٍ وأحاديثَ لدعم باطلهم . فليس من الصحيح أن نسكت دائما عن الإصلاح بحجة الخوف من الاصطياد في الماء العكر . فالسكوت خوفا من ذلك له وقته , والإعراض عنه والمضيُّ في الإصلاح له وقته , وتقدير ذلك موضع اجتهاد . ومن الواجب خلال هذا التصحيح العلني أن نبين للجميع أننا وإن انتقدنا بعضنا , إلا أننا صفٌّ واحد تجاه من يعادينا جميعا . وأن نسعى بجد واجتهاد في إصلاح بيتنا من الداخل , لكي لا نترك مجالا للمتربصين . 11- شيخنا الكريم كم واحد من أهل مشورتك قد عرضت عليهم المقال قبل نشره ؟ عرضته على عدد كبير , وبعد تأمل طويل , وبعد استخارة ولجوء إلى الله تعالى .12- شيخنا الكريم : المسائل التي عرضتها ليس فيها مسألة واحدة خارج نطاق الاجتهاد السائغ . وتقدير مجال سد الذرائع وتقييم الخلاف = كلاهما من موارد الاجتهاد . أولا : مصادرة الاختلاف السائغ ليس اختلافا سائغا . ثانيا : المقصود من المقال هو أن تتعامل الهيئةُ والعلماءُ من خارجها وطلبةُ العلم مع الاجتهاد الذي يخالفها أنه اجتهاد سائغ , وأنه بذلك يستحق أن يكون حلا إسلاميا . فالمقال (في الدرجة الأولى) لم يأت إلا لتسويغ الاجتهاد الذي يخالف الهيئة إذا وُجدت فيه شروط تسويغ الاجتهاد الصادر من الهيئة نفسها , دون زيادة شرط موافقة الهيئة ! ولم أقصد إسقاط الهيئة , وليس فيه عبارة واحدة تدل على ذلك ؛ إلا بسوء الظن , أو لمن يظن أن مجرد تقرير ذلك الموقف من الهيئة إسقاط لها ! وهو في الحقيقة إسقاط لها عن منزلة العصمة (التي يدل على وجودها ذلك التصور الذي دعاني لكتابة هذا المقال) , لتبقى على قمة أخرى , هي قمة أهل العلم حقا , وهي منزلة الاجتهاد , كاجتهاد غيرها من العلماء والهيئات والمجامع ودور الفتوى . ثانيا : أن سد الذرائع والخلاف في مسائلها الجزئية ليس كله خلافا سائغا , وليس كله خلافا غير سائغ . فمن حرم ما أباح الله تعالى لوساوس خاصة به , لا لأدلة تفيد غلبة الظن (على أقل تقدير) تدل على أن ذلك الحلال ذريعة للحرام = سيكون سده للذريعة بتحريم الحلال خلافا غير سائغ ؛ لأن تحريم الحلال لا يجوز بالوساوس . ومن سد ذريعة للحرام لكنه أدى إلى مفسدة عظيمة وبلاء كبير لا يخفى على عموم الناس أنه نتيجةٌ محتّمةٌ لسده تلك الذريعة = سيكون أيضا خلافه في سد الذريعة غير سائغ ؛ لأنه صدر عن جهل بالواقع الذي يجيز له الحكم فيه . 13- توسيع دائرة سد الذرائع والخطأ في تقييم الخلاف = ليس له حل إصلاحي سوى مواصلة التنبيه على المعايير الصحيحة من وجهة نظرك للبابين،ومواصلة تطبيق تلك المعايير على فروع المسائل ،ويدور الخلاف ويختار ولي الأمر ما يراه من بينكم.وليست مقالتك هذه مؤدية لاهتداء العلماء الرسميين للحق الذي معك في تلك الأبواب. وليست هي بالتي ستجعل ولي الأمر يهرع لاجتهاداتك ويرى فيها الملجأ والملاذ. لو كنت أسلم لك بهذا , لما كتبت المقال , فهو محل النزاع , ومناط الاختلاف . ولولا أن اجتهادي قادني إلى أن هذا المقال خطوة للإصلاح لما كتبته . 14- حفظنا عنك : السعي لتعضيد معاقد الاتفاق والائتلاف والحرص على وحدة الكلمة والعمل في نطاق القواسم المشتركة ،مع التنبيه على الأخطاء برفق وحسن تأتي وأن مصلحة الائتلاف هي المقدمة.ولم نقرأ في مقالك حجة قوية تدعو لهجر هذا الأصل مع المشايخ الرسميين. لم أهجر هذا الأصل حتى في هذا المقال , لكني أعلنت (مثلا) أنه لا يحق لهم إلغاء الاختلاف السائغ , 15- لا يُنازعك أكثر الناس أن هناك نوع تقصير إصلاحي في العلماء الرسميين . لكن الواجب هو أن يعمل كل وفق طاقته وفي مجالاته وأن يُعذر إلى ربه ، لا أن نوجه مسار المعركة إليهم لم لا تُصلحون ونحن أولى منكم بإدارة الدفة = فهذا إقامة لمعركة وتحريك جيش لإدراك مظنون ربما لا يحدث،ومثل ذلك نربأ بك أن تقع فيه .وإذا كان مثلك في موقعك الرسمي وتأثير جاهك ومكانتك يشكو من ضعف تأثيره الإصلاحي = فماذا يفعل أهل مصر والشام والمغرب؟؟!! أظن أنني قد أجبت عن هذا ببيان المشكلة التي جاء المقال لكي يعالجها .16- قد لا ننازعك في صواب اتهامك للعلماء في المسائل التي ذكرتَها = ولكن طريق إزالة ذلك ليس بمقالة تقو فيها سأفاصلكم وأنبذ إليكم على سواء. لم أنبذ إليهم على سواء , كل ما في الأمر هو أن يعلم الناس أن خلافهم ليس خلافا للإسلام , حتى لو أصروا على المخالفة والتشنيع على القول المعتبر . كما حصل في عدة قضايا , لا تخفى على متابع . 17- شيخنا : لا ينبغي لمن كان يُداري قوماً أن يقول لهم كنتُ أداريكم إلا إذا كانت مداراته عن بغض واتقاء فحش،أما من دارى لتحصيل مصالح فإنه ولو بان له أن المصالح متوهمة = فإنه لا يقول كنتُ أداريكم؛لأن المفاسد حينها تكون محققة. إذا كان إعلان ترك المداراة هو الحل (كما حرصت على توضيحه) فلا بد منه . خاصة أنه تركُ مداراةٍ لا إلى عداوة , ولكن إلى إنصاف . وما أشد حزننا أن يُضطر عالمٌ أو طالبُ علم أن يكون هو الذي يداري العلماء , خاصة فيما يسوغ الاختلاف فيه ! كان الأولى بهم هم أن يُعَلِّموا الناسَ التسامح مع الاختلاف . وقصة ذلك الشاب الذي جاء يستأذن النبي صلى الله عليه وسلم في الزنا , أكبر مثال لما يجب أن يكون عليه العلماء مع عموم الناس , فضلا عن علماء مثلهم أو طلبة العلم يريدون التعلم .الخلاصة : الصدع بالحق هو إطاره بالدلائل الشرعية والحجج المرعية في صورة تصل لمن تمكن من طلبها ،وصورته ولغته مقيدة بسواغ الخلاف،ومصلحة وحدة الأمة وتكاتفها،وغلبة ظن حصول المصلحة باللغة المختارة،وليس من شرط المصلح أن يتحقق أمله الإصلاحي،وليس من شرط تحقق آماله أن يجري على يد السلطان،وإهدار حرمة المصلح واستعداء الناس عليه ليس غرضاً يسعى إليه المصلح ويقع فيما يعلم يقيناً أنه يجر عليه وقوعاً في عرضه،والعلماء الرسميون ليسوا من أهل الردة ولا المعتزلة ولا الأشاعرة ولا أهل العلمنة ،بل دائرة الخلاف والإصلاح معهم أضيق بكثير مما يزيد من طلب الرفق والتلطف والحرص على وحدة الأمة وائتلافها وتأكيد معاقد الإجماع والحوار الدائم المتواصل بالحجة والبرهان والله يهي من يشاء وكل الأمور تجري بمشيئته هو يعلم خير الأمور حالاً ومآلاً،والإصلاح الديني والتعليمي ليست معاقده هي الاختلاط والعباءة ولا إثبات أخطاء دعوة الإمام المجدد ،وليس في كل مسائلك مسألة ألصق بالإصلاح إلا مسألة الخطأ في تقييم الخلاف،وقد صنفتَ فيها كتاباً ،وكنت تستمر على هذا،والواقع يشهد بتحسن تقبل الناس لفكرتك فيها رويداً رويداً،بل صاحب الفطنة ربما توصل مع وبالعلماء الرسميين حتى يكونوا هم دعاة فكرته في تقييم الخلاف؛فهم أحوج الناس إليها أمام من يُخالفهم..ولكن هذا باب من السياسة لعلك استعجلت فلم تُهد إليه. كل ما ذكرته في هذه الفقرة أوافقك عليه , فمثلا قولك :( واستعداء الناس عليه ليس غرضاً يسعى إليه المصلح) أنا معك فيه , وليس من الاستعداء أن نقول : ليسوا هم وحدهم أهل الاجتهاد , ولا يحق لهم مصادرة الاجتهاد السائغ إذا خرج من غيرهم , ولا أن يُلزموا الناس باجتهادهم في مقابل اجتهاد سائغ لغيرهم . وقولك (والعلماء الرسميون ليسوا من أهل الردة ...) حاشاهم من أن يكونوا عندي كذلك , ولا يقول هذا أحد , ولا أكثر العلمانيين , فلا داعي لنفيه عنهم في الرد على مقالي . إلى أن قلتَ (وفقك الله) : (لعلك استعجلت فلم تُهد إليه) , هذا هو محل النزاع , فلو كنتُ أظن أنني لم أهتد إليه لما كتبتُه . كما أنني بعد أن بينتُ لك مقصود المقال الصريح (خلال توضيحاتي السابقة) الذي لم تهتد أنت إليه , , فأرجو أن تعترف لي : لا بأني مصيب , بل يكفيني أن تعترف بأني وإن أخطأت , فلم يكن ذلك عن عجلة , بل قد يكون بعد تعمق كبير , لكن عمق المسألة الذي لا يُستغرب معه الخطأ فيها هو الذي جعلني أخطئ .شيخنا . يعلم الله أني أحبك وأراك صاحب منة علي،ولكنا نراك أخطأت،وقد علمتنا ألا نقلدك وأن من اجتهد فأخطأ خير ممن قلد فأصاب؟،فهاأنا ذا أجتهد وأخالفك = فهل ترى خلافي لك يسع،وأنه تبقى مودتنا ولو اختلفنا،وهل آمل منك بمراجعة لعلك تُفيد من تلميذك شيئاً. مع أني لا أعرفك , ومع أنك خالفتني . فأشهد الله أني أحببتك , دون سابق لقاء ولا معرفة . لما رأيته فيك فيك من عقل راجح وأدب وافر وعلم يدل على حلم . فمودتك بهذا الاختلاف زادت (علم الله) , وعندما أستشهد الله على ذلك أعلم تماما ثقل هذا الاستشهاد .اللهم أنت الحق اهدنا للحق ووفقنا له وأعنا على العمل به والصبر عليه ولا تجعل اللهم البأس بيننا في تحصيله شديد وارزقنا الرفق والحكمة إنه م يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً. اللهم آمين والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته .