يكشف الكاتب والأكاديمي حمزة السالم في الحلقة الثانية من حواره تفاصيل حياته في العسكرية وكيف طلب العلم الشرعي، ثم دراسته في أميركا وتحوله من عالم دين تقليدي إلى أستاذ شرس في الاقتصاد يقارع كبار العلماء بعد أن جمع بين العلم الشرعي والاقتصاد المعاصر. ويروي مراحل حياته المتقلبة بمرارة تارة واعتزاز تارة أخرى، ويستذكر كيف أقبل على العلم الشرعي فجأة بعد أن تخرج ضابطاً مرابطاً في الثغور، فيتحول مع الوقت إلى شيخ عسكري، ومن بعد إلى محارب شرس واجه العراقيين في الحدود مع السعودية بكبرياء وعقيدة قتالية دفعته إلى استعجال المواجهة مع العدو الذي لم ترهبه أعداده ولا عدته حينئذ. ويتذكر باستغراب كيف كان يبكي كالطفل عندما أجبره عمه عبدالعزيز على الذهاب لأميركا رداً على طلبه هو الاستقالة من العسكرية للتفرغ للتعبد في الحرم. فيحول أميركا ساحة للدروس كما كان يفعل في السعودية، حتى درس الأميركيين الدين بالكاد يفهمون عنه، العقيدة «الطحاوية«. حياة مليئة بالمفارقات يرويها السالم. في ما يلي نص الحوار. كثيرون يجهلون من أنت، فظهورك جاء فجأة، بعد شنك حرباً ضروساً على أرباب المصرفية الإسلامية، فمن أنت؟ - نشأت في كنف رجل زاهد هو والدي الشيخ محمد السالم رحمه الله والذي جاور مكةالمكرمة فدرست فيها المتوسطة والثانوية. ثم التحقت بالكلية العسكرية عام 1402ه وتخرجت منها ضابطاً في سلاح المدفعية ولم أبلغ العشرين من عمري آنذاك. والوحدات العسكرية الميدانية بطبيعتها توفر كثير من أوقات الفراغ المقيد بالتواجد على الثغور. وحيث أنني كنت مولعاً بالشعر والأدب فقد كانت كتب وكتابات الشهيد سيد قطب رحمه الله أول محطاتي الفكرية. ثم اتبعت وصية شيخ الإسلام ابن تيمية في التدرج في طلب العلم الشرعي، فكانت 12 عاماً صرمتها في بحور العلم الشرعي. فحفظت أولاً القران كاملاً قارناً الحفظ بالتفسير وعلومه، ثم أتقنت علوم العقيدة من كتب ورسائل أئمة الدعوة النجدية، ثم درست أصول الفقه وعلوم الحديث ثم كانت معظم دراستي للفقة من كتب فقهاء الحديث كفتح الباري لابن حجر العسقلاني والروضة الندية وغيرها. وطلبت العلم بالدفتر والقلم والكتاب على الآلاف من الأشرطة العلمية للشيخ عبدالله بن حميد، والشيخ الألباني والشيخ ابن عثيمين رحمهم الله. ثم وجدت نفسي بعد ذلك قادراً على فهم كتب شيخ الإسلام ابن تيمية، فكانت المحيط الذي لا ساحل له، والجامع الذي لم يفته شيء، والمدرسة السلفية المؤصلة على الكتاب والسنة والمورد للاستنباطات العقلية من الأدلة الشرعية التي لم يختلف فيها رحمه الله أو يتناقض قط. وفي ذلك العقد كانت خواتم الجهاد الأفغاني كما اجتمعت فيه بدايات ونهايات ما يسمى آنذاك بالصحوة والحركة السياسية الدينية، والأطروحات التي صاحبت فتن حرب الخليج، والتي كنت منخرطاً فيها كضابط توجيه نيران المدفعية في الخفجي والكويت. وبعد أن أنهيت دراستي في قسم الدراسات الشرعية العليا بجامعة أم القرى. وفي عام 1417ه تم ابتعاثي إلى الولاياتالمتحدةالأمريكية للدراسات العليا. وهناك أقمت حلقات التدريس الشرعي وأممت بالمسلمين في التروايح والتهجد، وهناك أدركت كيف يتصارع المسلمون في مسجد على النفوذ بتأويلات متنوعة ففهمت صفين والجمل. وهناك عاصرت كيف تكيفت أميركا باستراتيجية جديدة بعد حادثة سبتمبر، وأهمية اتحاد الشعب خلف قائده عند المصائب. وهناك ومن منظار أعماق مفاهيم السلف رأيت حضارة عظيمة تعجبت كيف أننا لسنا أهلها. وهناك وجدت نفسي وقد رُميت في محيط المال والأعمال الهائج، الذي كل موجة فيه هي فريدة من نوعها، فحصلت من أرقى الجامعات الأمريكية على الماجستير في إدارة الأعمال، واخترت من ضمن أفضل الطلبة ورجال الأعمال في أمريكا، أما رسالتي للماجستير في الاقتصاد والدكتوراه في الاقتصاد المالي الدولي طُبعت رسالتها في كتاب من دار نشر ألمانية على حسابها، ووزعت على معظم الجامعات الأمريكية وتباع في جميع أنحاء العالم. وعند عودتي التحقت كعضو هيئة التدريس في جامعة الأمير سلطان، كما أدير مكتب استشارات وشركة تجارة واستثمارات خاصة بي، وكاتب أسبوعي في جريدة الاقتصادية. بما أنك ذكرت في سيرتك أنك دخلت العسكرية، نسألك عما وراء اختيارك هذا القطاع تحديداً؟ - الوالد - رحمه الله - كان من كبار الزهاد كما أسلفت، وخريج كلية الشريعة، وكان زميل الرجل الخلوق محمد بن حسن آل الشيخ، الشاغل لمنصب وزير التعليم العالي سنوات عدة، وكان والدي من كبار الزهاد، في مكةالمكرمة. ماذا تقصد بكلمة الزهاد؟ - إذا تسلّم راتبه وزعه للفقراء قبل أن يصل إلى بيته وهو لا يملك شيئاً، ومعناه كان زاهداً في الدنيا لا يرضى أن يشتري أرضاً، ولا يرضى أن يأخذ منحة كذلك، وعرضت عليه الوزارة ورفض. وكان - رحمه الله -يقول إنه يريد أن يحارب ويستشهد في سبيل الله في فلسطين، هذا في زمن الملك فيصل. ربانا على أننا سندرس ونتخرج ونحارب في سبيل الله، وهو فكر تأثر به حتى أخي الأكبر ياسر، فانتسب إلى القوات المسلحة وأصبح طياراًَ حربياً، أما أنا فانتسبت للحرس الوطني، فكان كل هدفنا متى يتم أمرنا مع الجيوش لنتوجه إلى فلسطين، وأتذكر أن أحد النقباء ذات مرة في التدريب تحدث إلينا عما يحفزنا عن الجد في عملنا، فعدّد لنا المغريات المادية التي يحصل عليها الضباط، فرفعت يدي بين المجموعة، وقلت له يا حضرة النقيب، أنا لم آت إلى هنا لأجل الفلوس ولكن من أجل الدفاع عن أوطاننا ومحاربة إسرائيل، وقال «خير إن شاء الله«، ومن جانبي اتصلت بوالدي وقلت له إن النقيب يقول كذا وكذا، كأني أشتكيه. قلت إن الوالد - رحمه الله - كان زاهداًَ حتى في المناصب، أليس هذا مبالغة، ونحن نرى كثيراًَ من المشايخ أشد أحياناًَ في التنافس على المناصب الكبرى، مثل الوزارات، هل والدك كان مختلفاً؟ - لا يزال في بلدنا بقية من السلف الصالح ممن يتورعون عن المناصب العليا، مثل القضاء والوزارة، وتلك خصلة حميدة جداًَ، ومن بين من أعرفهم الشيخ صالح الحصين، والشيخ أحمد بن حميد، أحد القامات الرفيعة ممن لا يكاد يعرفهم أحد، أجزم بأنه عُرِض عليه الكثير من المناصب، وأمثالهم كثير ممن لا نعرفهم أنا وأنت. وعلى أية حال، الزهد فيه الصواب وفيه الخطأ، وزهد الوالد كان فيه خطأ، فهو يرفض حقوقه، وإن أجبر على أخذها أمضاها في الإنفاق، كأنها عبء ثقيل يسعى للتخلص منه في أسرع وقت. قبل أن ننتقل إلى محور آخر، هل ورثت من والدك هذا الزهد أو مسّك طائف منه على الأقل؟ - والله أنا لا أتطلع إلى أي منصب، ولو كنت أفكر فيه لبقيت في موقعي السابق ضابطاً كبيراً في وزارة الداخلية، أتقاضى من التقدير والمال ما يحسد عليه أي شخص. لدرجة أنه لو عرض عليك أي منصب مرموق، سترفض؟ - دعني أكون معك أكثر صراحة، لو خيرت في أي منصب في الدولة لاعتذرت، وفضلت البقاء في عملي الحر والأكاديمي كما أنا، ولكن لو قدر أن ولي الأمر وضع ثقته فيّ وأمرني بشيء كهذا فإنني لن أعصي له أمراً. وأكرر أن هذا ليس منهجي وحدي، هناك الكثيرون يأتون المناصب من باب سد ثغرة يدينون لله بأنهم إن لم يسدوها يأثمون، أو لأن ولي الأمر أمرهم فأطاعوه. وهذا بطبيعة الحال حقه علينا جميعاً. نعود إلى فلسطين، هل ما زال حلم الحرب ضد إسرائيل يداعب أشجانك، أم تخلصت من أحلامك تلك الوردية؟ - لازمتني تلك الأحلام، حتى قامت حرب الخليج التي شاركت فيها أنا وزملائي، فبدأت أكبر وأعي، كما تكشفت الكثير من الأقنعة، خصوصاً تلك التي تتحدث عن الأمة العربية والمسلمة الواحدة، ففي حرب الخليج تعلمت أن العدو الشرس أو الخطر ليس بالضرورة أن يكون تقليدياًَ مثل إسرائيل، ولكن ربما يكون ابن عمك القريب مثل صدام. وهنالك أصبحت عقيدتي العسكرية دينية، ووطنية أكثر مما مضى. بل حتى عندما كان الخطاب تعبوياً ضد إسرائيل، كان ما يشحذ همتنا إضافة إلى احتلالها أرضاً مسلمة عربية، أننا مؤمنون بأنها دولة تهددنا نحن أيضاً، وتشكل خطراً على أمننا. دخلت العسكرية وتخرجت منها برتبة ضابط ملازم، في ذلك الوقت الصدى الإسلامي للعسكرية كيف كان؟ - في تلك الأيام ليس هناك أي صدى للعسكر، وما كانت الكتب الثورية متداولة، فقط كان بحوزتنا وحولنا كتب الشعر والأدب والثقافة ونحوها، وكنت ألتهمها برغبة عارمة. ويوم تخرجت في الكلية عام 1405ه، وكان عمري 19 عاماً تقريباً، وتعرف المدفعية وحراسة الثغور فيها الكثير من الفراغ، بما أنها تركز أكثر شيء على التدريب، ولكن لم تضع مني ساعة في حياتي، إلا سنتين مررت فيهما ببعض الظروف. صلتي بالكتب كانت متواصلة، إلا أن كتب سيد قطب كانت الأكثر إثارة لاهتمامي واندفاعي، وقد التهمتها جميعاً، وربما كانت قراءتي هي ما دفعتني في تلك الأيام إلى طريقة في الزهد تكاد تشبه حال والدي، فكان أكثر راتبي أرسله إلى أيتام أفغانستان، التي تشهد حرباً في ذلك الوقت، والحماسة لدى الجميع لمساعدتها كانت كبيرة. كأنك تحكي عن الموضوع بلهجة النادم؟ - لا، ولكن تفكيري كان خطأ، فكون الإنسان يأخذ راتبه ويقدمه كاملاً للغير حتى وإن كانوا محتاجين، هذه مبالغة في الزهد ليست صحيحة. أنت تقول انك تحول الأموال إلى اليتامى في أفغانستان، ثم جاء الجهاد الأفغاني؟ - والله كنت أنصر وعزمت على الذهاب، وكنت شديد العزم على ذلك إلا صداقة قوية ربطتني بالشيخ عبدالوهاب الطريري، الذي كان إماماً لجامع الملك عبدالعزيز القريب من بيتنا آنذاك، نصحني بعدم الذهاب، فكان يطلعني على الكثير من الخفايا التي ما كنا نحن الشباب نسمعها، سواء في ما له علاقة بالأكاذيب والأساطير، أو خلافات المجاهدين، وقال لي إن الأفغان قادرون على تحرير أرضهم، ويدعمهم كثيرون بالمال، أما أنت فبلدك أحوج إليك، جزاه الله خيراً كان مخلصاً وناصحاً أميناً. أفهم من هذا أن بعض المشايخ يضللون الشباب ويخفون عنهم الحقائق؟ - ليس بهذه الصورة تماماً، ولكن المشايخ كان قصدهم عدم تخذيل المجاهدين، ودفن ما يحدث من خلافات ومساوئ حتى لا تسوء سمعة الجهاد، ولكن بعد فترة اتسع الرقع على الراقع، وحصل ما علمه الجميع. ذكرت في بداية الحديث أنك تتلمذت على كتب قطب، فكيف كان تأثرك به، وهل دفعك مثل غيرك إلى نزعة التكفير والتمرد عن محيطك؟ - لا، أنا قرأتها فقط في البداية، أول سنة تقريباً، وأنا لما أقول سنة فإنه يعني من بعد صلاة الفجر إلى التاسعة ليلاً، لا أنقطع عن القراءة، فليس لدي أصحاب ولا تلفزيون ولا شيء آخر. أما كتبه فصلتي بها بعيدة، فلم أقرأها إلا في صغري، وكل يؤخذ من كلامه ويرد، وبالنسبة للتكفيريين الذين شوهوا كلام العلماء السابقين، فإنهم يستشهدون حتى بالقرآن، ويحرفونه عن مواضعه. قل لي بصراحة، هل بعد أن كنت طالباً لكتب الإخوان عدت كما يقال إخوانياً، أم أنها لم تفلح في تحويلك أيديولوجياً؟ - أنا نشأت سلفياً وهابياً، وكل المحطات التي مررت بها في حياتي صاحبتني فيها سلفيتي إلى اليوم والحمد لله، ولم أعتنق أي مذهب أو توجه فكري غير السلفي. لكن هنالك مقولة تزعم بأن من كان شيخه كتابه وربما شريطه أيضاً صار خطؤه أكثر من صوابه. وأنت قلت إن جل دراستك كانت على الكتاب والشريط؟ - ليس صحيحاً، لأنه لو كان هناك الأشرطة مفيدة ونافعة فكأن الشيخ أمامك، وتقريباً استمعت واستفدت من كل أشرطة عبدالله بن حميد وابن عثيمين والألباني، وهم شيوخي كأنني طلبت على أيديهم العلم. يعني أنت شيخ أشرطة؟ - أنا كنت عسكرياً أعيش في الثغور ليس لدي وقت يسمح لي بالمكث عند المشايخ فما المانع إذا كان معك الكتاب الذي يدرسه الشيخ ومعك الورق والقلم وتجلس عليه جلسة جادة، تكون كالدارس عليه. بل إنني ربما أطلب الإجازة ليس للراحة وإنما للتفرغ لكتاب ظفرت بشرحه مسجلاً على الأشرطة، ولا أكتفي بالسماع فقط، ولكني آتي بالكتاب والقلم والدفتر، وأسجل النقاط، وأقيد ما يحتاج إلى تقييد، كأنني في حلقة درس. حتى إنني واصلت الدراسات العليا في جامعة أم القرى، ووجدت ما أدرسه أشبه ما يكون لي بمفردات صغيرة إذا ما قيس بما حصلت عليه من علم عبر الكتاب والشريط، أستحضره في ذهني حفظاً وفهماً، وتفوقت على الكثيرين من أصحاب التخصص الشرعي، ولك أن تسأل إمام الحرم الرائع الشيخ ماهر المعيقلي، الذي كان صديقاً حميماً لي في الكلية. هل أفهم من ذلك أنك تفوقت أيضاً على إمام الحرم؟ - ماهر المعيقلي تفوق على الناس كلهم، لكن غاية ما قصدته أنني كنت من الأوائل، وبمناسبة ذكر هذا الإنسان النقي، فإنني لم أر في حياتي شخصاً طاهر القلب مثل ماهر، كان صفي النفس، لا يغتاب أحداً، ودوداً تتنزل السكينة علينا إذا حل بيننا، الكل يجلّه ويقدره، وهو في ذلك الوقت لم يكن إلا زميلاً لنا أجمعين. إذاً كم ذبحت عندما صار إماماً للحرم؟ - أنا فوجئت وأنا في أميركا، وأسمع الصوت وهو إمام المدينة في صلاة المغرب أو في العشاء قلت هذا ماهر ما الذي أتى به إلى المدينة؟ ومتأكد انه ماهر، والله أحسست بالسعادة له كثيراً جداً، وما زال بيننا تواصل حميم. وهل لديك معه بعض الذكريات الجميلة؟ - الذكريات الجميلة مع هذا الإنسان النبيل كثيرة، ولكن دعني أقص عليك قصة لعل الآخرين يعتبرون بها، فأتذكر أننا ذات ليلة ماهر وأنا نمشي بعد صلاة العشاء، وتأثرت جداً بتلاوة الشيخ ماهر لعذوبة صوته ونقاء قلبه، فقلت له يا شيخ ماهر أتوقع أنك لو حفظت القرآن سيكون لك شأن، وهو في ذلك الوقت لم يكن يحفظه كله عن ظهر قلب، وجعلت أحرّضه وأحثّه حتى أكثرت عليه. بطبيعة الحال لم يكن هو ولا أنا نفكر في الحرم، إذ كان أملاً بعيداً، ولكن الله كان أكرم من أحلامنا جميعاً. وكنت في الطريق أقص عليه قصتي، فأنا في حينه كنت حافظاً للقرآن بحمد الله، ولكن صوتي ليس كصوته، فأنا كنت قليل الاهتمام بحفظ القرآن، إذ كان جل إقبالي على قراءة الكتب، وكنت أتمنى لو حفظت جزءاً واحداً لكني أتصور في الأمر صعوبة ومشقة، حتى جاء الشيخ عبدالله جابر للحرم فحببني بقراءته في حفظ القرآن أكثر، فصرت متيماً به وبقراءته، وهكذا اجتهدت بكل ما أوتيت من عزيمة حتى حفظت القرآن كله. وأقص عليه القص لأؤكد له أنه إن حفظ القرآن وتلاه بصوته الشجي سيؤثر مثل عبدالله جابر في خلق كثير، وهذا ما حدث والحمد لله. وماذا قال لك بعد نصيحتك أو اقتراحك الثمين؟ - قال الله يعين، وتخرجنا وانقطعنا عن بعضنا، وأنا في أميركا أسمع صوته في حرم المدينة. لكن هو ما كان يحلم في ذلك الوقت أن يكون إمام حرم المدينة؟ - لا أعتقد أن ذلك كان يخطر على باله حتى ولا يخطر على بال أحد أن ماهر يكون إمام حرم المدينة. هل طلبك للعلم أخذك من العسكرية؟ - على العكس تماماً، بل ساعدني على الصرامة والانضباط أكثر، وكنت أعتزّ كثيراً بعملي. بصراحة، كيف وجدت نظرة العلماء والدعاة لك، خصوصاً بعد أن أصبحت لك آراء تخالفهم، وأنت عسكري وتأسيسك العلمي كان على الأشرطة؟ - الناس مختلفون، ولم أجد من العلماء وطلبته الحقيقيون إلا كل التقدير والاحترام، وأنا في كل ما أقول لا آتي بالشيء من عندي، ولكن أسنده إلى قول علماء في الشريعة، وأمهات كتب لها وزنها العلمي، ولا يستطيع كائن من كان القدح في صدقيتها. وكثيراً ما يأتيني بعض طلبة العلم أساعدهم في حل بعض المسائل الشرعية، فلست بحاجة إلى تزكية من أحد. ولكن من وجهة نظري أن مجتمعنا يعاني خللاً كبيراً، فهو لا ينظر إلى القول وحججه وبراهينه بقدر ما يقف طويلاً عند قائله. لهذا سألتك، فالمهم ليس القول في العالم العربي، وإنما القائل؟ - لاحظت هذا، وأزعجني بسبب مجانبته للموضوعية. ما فائدة عقولنا إذا لم نمنحها فرصة التمييز بين الأقوال، ولم نفحص بها الأمور من دون أن نجعلها وقفاً على شخص بعينه. وأنت تتعجب من شخص تقول له قال الله وقال رسوله، وقال مالك وأحمد والشافعي، ثم يقول لك قال طالب العلم الفلاني. لاحظت أن السواد الأعظم من الناس مغرمة بالعالم الموظف، وهذا خلل. على أي حال أنا أطروحاتي ليست موجهة للعامة ولا لمن سلبت عقولهم. وهنالك شريحة كبيرة أسعد بالنقاش معها. بعد أن أصبحت شيخاً، هل قمت بالتدريس في المساجد أم ظللت شيخ نفسك؟ - كنت أدرّس في السكن العسكري، وكان عندي كثير من الشباب، كنت شيخ الثغور، وأذكر أن أحد الزملاء أتى إلي بأخيه الذي تلوث عقله بالفكر التكفيري في حوالى عام 96 وحاورته كثيراً، ثم بعد أن أحبطت كل حججه وشبهاته شرعياً، استمر يعاند ويكابر على رغم جهله الشديد بالشريعة، فطردته من عندي، وبعد سنوات وجدته في قائمة المتطرفين الذين قتلوا في المواجهات الأمنية، فشعرت بحزن شديد لأني لم أصبر عليه، لعل الله يشرح صدره. أفهم من حديثك أن لديك تجربة مع التكفيريين؟ - لي تجارب معهم في السعودية وأميركا، ولكن هم عموماً يركزون أفكارهم على أخذ قول عالم في مناسبة معينة ثم يسقطونه على مناسبة أخرى لا تمتُّ إلى تلك بصلة، فتخصصهم هو تشويه أقوال العلماء وبترها عن سياقها، ولديهم من الجهل ما لو وزع على أهل الأرض لوسعهم. هل يعني هذا أنك ترى أن التكفير مرده إلى قلة في العلم؟ - هذا صحيح، أما قلة في العلم أو طلب زعامة. وهناك فئة أخرى ساذجة لدرجة كبيرة، فهي لو حتى طلبت العلم تظل بعيدة عن استيعابه وفهمه، كمثل الحمار يحمل أسفاراً، وتلك فئة البلداء والمغفلين. أما عدا هؤلاء فيستحيل أن يكون تكفيرياً. كيف كانت مشاعرك وأنت تشارك في حرب الخليج، وفي حينه حدثت ضجة كبيرة من بعض المتحمسين؟ - كنت في حرب الخليج في أوج التزامي الديني، ولكني كنت معتزاً ومنتشياً بمهمتي في إطلاق المدفعية، أما الذين يدافعون عن الغزاة فلا قيمة لما يقولون لدينا، فنحن في ساحة المعركة، ونرى الأخطار بأم أعيننا، وشراسة العدو وحقده. كنت شديد الحماسة لقتال العراقيين ومواجهتهم في الميدان لكسر غطرستهم، وإظهار شجاعة الجندي السعودي. كنت أدعو الله أن يدفع عن المسلمين الصادقين حينما أرمي العراقيين بالقذائف. وكشفت لنا الحرب عن كثير من الحقائق، كما أسلفت في بداية حديثي معك. ولكن رغم كل شيء حتى قبل تدخل قوات التحالف كانت معنوياتنا جداً مرتفعة، ولدينا حماسة بالغة لكسر شوكة أعدائنا. والقوة المعنوية، والشعور بعدالة ما تقوم به أهم من أي سلاح آخر. ومع كل الذي شاهدته إلا أن كثيرين بكوا على صدام؟ - أولئك الأخسرون أعمالاً، الذين يبكون على صدام، أما أنا فأخذت عهداً على نفسي أني كلما جاء ذكره ألعنه ما دمتُ حياً. وكل الوجود الأميركي في الخليج وإهدار مقدرات العراق، وما حل بالمنطقة من مصائب كان صدام حامل وزره الأكبر. فلأي شيء نبكيه. فليذهب إلى الجحيم. وفرحت أيضاً حين سقط؟ - بلا شك، فرحت كثيراً، وليقل عني ليبرالي أميركي. لا يهم، فأنا وزملائي والعراقيين من عرفنا كم كان صدام لا يستحق الرحمة. وكرهي لصدام لا يعني موافقتي على جرائم الاحتلال في العراق. عمّي أنقذني من «الدروشة»... وبقاء أميركا «خير للمسلمين» اعترف الدكتور حمزة السالم بأن عمه قطع عليه طريق «الدروشة« الذي كاد يسلكه بعد انتهاء حرب الخليج، وقراره اعتزال العسكرية حين قال: «بعد حرب الخليج هجمتْ عليّ عاصفة تدين أشد من السابقة، وتغلغل فيّ حب الزهد والرغبة في العلم الشرعي والاعتكاف في المسجد الحرام، حتى إنني قررت طلاق العسكرية والدراسة في معهد الحرم، والعيش على طريقة والدي إلى ما لا نهاية. لم أكن محرِّماً للعسكرية، ولا مقللاً من جهدي الذي أفتخر به في خدمة وطني، ولكن زهدت في الدنيا وأصبحت في طريقي إلى الدروشة كما قال لي عمي عبدالعزيز«. وأوضح أن عمه «عبدالعزيز« وبّخه بشدة عندما علم بما عقد هو عليه العزم، وقال له حينها: «إذا كنت تريد الحرم فسنجتهد في نقلك إليه، أما ترك العمل فلا. كان لعمي أهميته في نفسي ولم يعطني فرصة لأقول نعم أو لا، أطعته فيما أمرني وسعى بالفعل في نقلي إلى قطاع وزارة الداخلية، وعندها قال لي احزم حقائبك واذهب إلى أميركا وأكمل دراستك، ودعك مما تسول لك به نفسك. وهكذا أيضاً غمرني بلطفه وذهبت إلى أميركا شبه مكره«. وبما أن ترك العسكرية والتبتل في الحرم، والذهاب إلى أميركا مباشرة، أمر ليس مألوفاً، كان السؤال: «هل صدمت هناك؟«، فكانت إجابة السالم: «كانت صدمة لي أكبر مما تتصور، حتى عندما ذهبت إلى هناك برفقة أسرتي، ظللت أشهراً أبكي لهول الفرق بين ما كنت أريد وما قادني إليه قدري«. وعن أطرف المواقف من وجهة نظره التي واجهته في أميركا أن إحدى مدرساتنا الجميلات كان اسمها «كاثي« إذا أقبلت تشرح لهم الدرس تذكر شيخه في جامعة أم القرى الدكتور سليمان التويجري بوقاره ولحيته، فيبكي بمرارة شديدة، من هول المفارقة قائلاً في نفسه: «وين كنت ووين صرت الآن«. لكنه يؤكد أنه تأقلم مع مرور الوقت، وبعد حين فتح عينيه على الدنيا، كما يقول. ويتذكر السالم ضاحكاً أيامه في أميركا، يقول: «كنت أدرّس الأميركيين «العقيدة الطحاوية«، وكان خطأ كبيراً. المهم أنني أصبحت أؤم الناس وأدرّس في أحد المساجد، وأعيش بمنظار الشريعة، حتى إنني لم أكن أحرك رأسي يميناً أو شمالاً عندما أسير في الطريق، وتعرضت لمحن عدة، فاتهمت بأنني خائن وعميل لأميركا وإسرائيل، ومندوب السعودية، كل ذلك لأنني رفضت أن تُشتَم السعودية في المسجد الذي كنت فيه. وسئلت عن العمليات الانتحارية في فلسطين، فقلت إنني لست مفتياً، ولكني سمعت بأذني الشيخ ابن عثيمين يقول في منفذها عندما سئل عنه: «قولي فيه أنه في النار«، والشيخ الألباني يقول إن ذنبه على من أفتاه. وهكذا قامت ضدي حملة قاسية. ويضيف واصفاً بداية التحول الذي طرأ على حياته: «في جوهري لم أتغير، ولكني أصبحت أكثر انفتاحاً، وبدأت شيئاً فشيئاً أكتشف أميركا، وجدت هناك التكفيريين فوجدتهم أبعد الناس عن الدين فكنت عدوهم اللدود. بدأت من ناحية أخرى أرى أن ما يقول الآخرون قابل للنقاش والتفكير، ورأيت الناس كيف يتعايشون هناك، وفي وقت الفراغ أفتح على الكونغرس واسمع نقاشهم، وفي الجامعة بدأت أدرك قيمة الاختلاف في الرأي واستعمال العقل المجرد، وأصبحت أكثر مرونةً مع المختلفين معي. وهناك علمتني أميركا ألاّ أستهين بأحد، وعلمتني أن النقاش بين مجموعة سينتهي إلى حل أفضل من نقاش شخص وحده، وعلمتني أن لي عقلاً تحترمه«. ويتابع: «أميركا نجحت، لأنها اتبعت الفطرة التي هي العقل، العقل الذي لا يتناقض فنحن في جانب المعاملات التحليل والتحريم، وهم ما عليهم هذا الشيء، وهم أصابوا الفطرة في كل المعاملات، لأنهم حكّموا العقل«. ويؤكد السالم أن فكره السلفي الشرعي لم يتغير، معتبراً أن الجهاد في سبيل الله لا يكون بالسلاح فقط، «وأنا أرى أن ما جرى لي هو زيادة علم، والعلم زاد، ولم تتغير عندي ذرة من ذرات التفكير الشرعي، فأي إنسان يحاول أن يقول إن الغرب بنوا حضارة عظيمة دنيوية فقط يكذب على نفسه وعلى الآخرين، بل حتى اجتماعياً وحضارياً لم نصل اليهم. وعن سؤاله حول رأيه في من يحلمون بسقوط أميركا بعد الأزمة العالمية، أكد أنهم «سذج«، «وحتى الأزمة العالمية كانت مفتعلة من جانب أميركا لأسباب كثيرة ليس هدا موضوع ذكرها، وسقوطها لا يزيد المسلمين قوة، بل هي أرحم من اليابانيين والصينيين والألمان، وبقاؤها على وضعها الحالي خير للمسلمين«. وزاد: «صحيح أن أميركا غنية ودعمها لإسرائيل يستغل من كثير من الناس، بتأجيج مشاعر الناس وإيهامهم بأحلام سقوطها وما إلى ذلك من الأحلام الوردية التي لا قيمة لها، وهؤلاء الناس خطورتهم في انشغالهم بنقد النماذج الجيدة، بدلاً من أن يحاولوا المشي في طريقها والاستفادة من تجاربها«. واعتبر أن كل ما ينسجه الإسلاميون ضد أميركا من باب الاستخفاف بالعقول، وأنا رأيتهم كيف يشتمونها وهم يعيشون على ترابها ويدرسون في جامعاتها، لدغدغة المشاعر للوصول إلى غاياتهم وأطماعهم. أضغط هنا لقراءة نص المقابلة (1 من 2)