إن تقييم أداء العمل الصحفي ونقده أمر جلل وفن ممنهج أصيل لا يستغني عنه الوسط الإعلامي، ويأسف المتأمل المنصف حين يجد كثيرا وكثيرا ممن يقحمون أنفسهم فيه إقحاما، فتراهم يتساهلونه ويتجرأون على حماه متى شاؤوا وكيف شاؤوا، فهذا ينتسب إليه زورا، وذلك يتزيا بزي أهله وما هو منهم، فيكيل تارة الثناء والمجاملات التلميعية المكشوفة لمن يوافق مشربه واتجاهه وهواه، ويشن تارة أخرى حربا ضروس لا هوادة فيها على مخالفيه وعلى كل الأفكار والأطروحات التي لا تروق له. هذا التصرف غير المنضبط -الذي يستهجنه ويشكو منه كثير، قراء وكتابا- لا يستغرب حدوثه وتكراره وتجاوزاته في ظل إغفال هؤلاء القوم وأمثالهم المعايير الفنية للنقد أو جهلهم بها، وغياب أو تغييب الآليات المنهجية لقياس وتقييم أداء العمل الصحفي. إن خير ما ينفع الارتقاء بالأداء في المنظومات الصحفية والإعلامية الحرص على عدم الانزلاق وراء أدعياء النقد الرخيص وغير المنضبط، فهم لم يتعلموا فنه ولم يملكوا آلته، ولعل بعضهم -والله وحده أعلم بنواياهم- يسعى بفعله إشهار ذاته والتسلق على ظهور بعض ضحاياه، ولكن العاقل -كعادته- يحرص على الفائدة فهي ضالته وهو أولى الناس بها، وهذا يقتضي الإقرار بأمور مهمة: أولا- الحاجة الملحة للنقد في مجال تطوير الأداء، ثانيا- إهمال مصادر النقد غير المنهجي وتقزيمها، ثالثا- تعلم واتباع وتطبيق معايير فنية منتقاة وممنهجة لنقد وتقييم أداء العمل الصحفي. لا يكتمل النقاش في هذه المقدمة إلا بعرض نظرة عامة ومجملة لبعض المعايير العالمية لتقييم أداء العمل الصحفي، وسوف نخصص في الأيام المقبلة -إن شاء الله تعالى- سلسلة من المقالات الخاصة لتكملة البحث والحديث المفصل عن كل من هذه المعايير. تذكر بعض الدراسات المنهجية المتخصصة معايير مقياسية ينبغي دراستها وتحليلها ومتابعتها في سياق النقد والتقييم والارتقاء بأداء العمل الصحفي، ونختار للقارئ بعضها بلا ترتيب -للمثال لا للحصر- وهي كما يلي: 1- صحة المعروض الإعلامي 2- المصادر الصادقة والموثوقة 3- المنهجية في تشخيص وفهم وعي القارئ والتعامل معه 4- التركيز على هموم المجتمع والانطلاق منها 5- خبرة ومهارة فريق العمل 6- تعلم واستعمال فن إدارة الأداء والتحفيز 7- التدريب والتطوير الوظيفي لفريق العمل الصحفي 8- الحبك الجيد والتناغم للمعروض الإعلامي 9- التوقيت المناسب للمعروض الإعلامي 10- الإبداع في العرض والزوايا الجديدة والمثيرة وكسر حواجز النمطية المملة والقولبة الخانقة 11- إيجاد آليات فاعلة ومناسبة لقياس جودة أداء العمل الصحفي من داخل المنشآت وخارجها 12- جذب الخبرات الجديدة والمختلفة ورعاية المهارات الناشئة الواعدة وحضنها وتنميتها 13- وعي المنشأة الصحفية بمجالات الإجادة ونقاط القوة وزوايا التميزالمقصودة 14- التخطيط الاستراتيجي لتوجه الصحيفة ونموها 15- علم فريق العمل الصحفي كتابا ومحررين وباحثين ومدققين بخطة الصحيفة وتناغم كل جهودهم مع أهدافها إن كلا من هذه المعايير يمثل مسارا محددا للنظر والتحليل يعين في بلورة نقد ممنهج ومفصل ونافع، ويفعل الآليات المقياسية اللازمة لتقييم أداء العمل الصحفي. نأمل أن يحرر هذا المسلك المعياري المتزن النقد في صحفنا من كثير من العفوية والمزاجية والضبابية والجهود العقيمة وغير المثمرة، ويحدد -بوضوح وجلاء وبلا شخصنة ضيقة- تلك الجوانب في منظومة الأداء الصحفي التي تحتاج -أكثر من سواها- إلى التطوير والتحسين والتجديد والإبداع، وهذا بلا شك يشخص مواضع القصور والخلل، ويوفر الطاقات ويقنن الموازنات والمصروفات والجهود الإدارية والتدريبية بتوجيهها في مسارها الصحيح. من أجمل الثمرات المرجوة للنقد الممنهج والمعياري الارتقاء بالذائقة الأدبية وإرهاف الحس والوعي النقدي للقراء، وهم المستهدفون من العمل الصحفي برمته، ولأرائهم وتفاعلهم ومقترحاتهم أكبر الأثر في إنجاح العمل الصحفي وإنمائه في الاتجاه الصحيح. نختم هذا النقاش عن معايير تقييم أداء العمل الصحفي بمقترح وأمنية ورجاء نقدمه بين يدي وزير الثقافة والإعلام بتخصيص جوائز تنافسية -ذات معنى وقيمة- لمكافأة وتقدير الصحف والمنشآت الصحفية التي تتسم جهودها بالمهنية العالية، والالتزام بالمعايير المنهجية لتقييم الأداء الصحفي، والإجادة فيه، والإبداع في تطويره، فقد علمنا ربنا سبحانه وتعالى أن لا مساواة بين من يعلم ومن لا يعلم، وبين العامل والقاعد، وبين المجد المجتهد ومن هو دونه.