عبرَ زماننا وزمانكم لم تكنْ (سيرتا) أو قسنطينة -شرق الجزائر- غريبةً على ذاكرتنا الإنسانية قبلَ رؤيتها.. ولا كانت مدينة (الجسور المعلّقة) بتراتبيّتها التاريخية غائبة عنّا قبل عناقها.. ولا كان يفوتنا دور (جمعية العلماء المسلمين) التي تحمل مفهوم الإسلامية العالمية الراقية غير المجغرفة ببيئة ما قبل أنْ يوقعنا عاشقها الشيخ: بشير نجاّر، بإصراره على دعوتنا إلى زيارتها، ولقاء بعض وجوهها المشرقة!وليس مهماّ هنا أنْ نتحدث عنْ تاريخها لأهلها فنكونَ كمن يجلبُ التّمرَ إلى (هَجَر)، فهم يعلمونه خيرا من علمنا وهم صانعوه. لكنها ضمّتنا إلى حرارة صدرها أياما، بتلكم الدعوة فكان لنا معها أيام ساخنة منها: – اعتقادُ مضيفنا (الذي لم يكتفِ بضيافاتنا في منزله فقرر ضيافاتنا لدى وجوه مدينة ابن باديس من القياديين)، اعتقاده بأن انتمائي إلى جزيرة العرب يعني دينيّةً تقليدية عتيقة خالية من الثقافة العالمية المنفتحة -كما يصورها الإعلامُ العالمي- فأراد أنْ يحقق لي المراد كرما منه، بادئا زياراتنا بإدارة الشؤون الدينية، فكان هذا من حسن حظّنا، إذ كان يوم لقائنا الأول بمدير الشؤون الدينية السيد: يوسف عزوزة، ولقياه إيانا بذلكم الرقيّ المنفتح الذي علمني بأنّ الدين عالميّ طالما أن بنيه يفقهون بأن دور الشؤون الدينية هو: الإسهام المدني في الريادة الاجتماعية وخدمة المجتمع في كل الاتجاهات على أساس أنّ هذه الشؤون جزء من دور الدولة المدنيّ الراقي غير المتقوقع على مفهوم الشعائر التقليدية ومجرد مسجد تؤدَّى فيه صلاة يمكن تأديتها في المزرعة أو المتجر أو أي مكان: (جُعِلت لي الأرضُ مسجدا وطهورا). وتلكم ميزة لحظْتُها وأحسدُ أهلي هنا عليها -حسد غبْطة- ومنها مثلا في أنشطة تلكم الإدارة: حالات الزواج الجماعي الذي وجدت كثيرا من مستفيديه هناك ذلكم اليوم ممّنْ يجهّزْنَ له.. كما وجدتُ في مدير الشؤون الدينيّة ذلكم المسؤول الذي لا يستطيعُ أحد في العالم اتّهامه بشكليّةٍ تنبئُ عن تمثيل أو مسرحة في الشكل ولا أحاديّة في الفكر والرأي، وتلكم أهمّ دلالات التصوّر الأولية الراقية عن مفهوم الدين. – ضيافة مضيفنا الكريمة لنا. فقد وضعها أمام منزله في بلدة (القورزي) من أعمال قسنطينة أمام طريق رئيس، وجمع أحبةً من محبي الأدب ورؤوس القوم احتفاء بضيفه، ولكنّ الدّرك الوطنيّ لَحَظ تجمّعنا المشبوهَ وضحكاتنا (وخصوصا ضحكهم عليّ عندما هددتهم ومعظمهم من الإباضية العاملين في قسنطينة، بأنْ أؤمِّنَ وحدي وراء الإمام)، فقرّر الدرك مداهمتنا كتجمعٍ مشبوه، فما كان من المضيف سوى إصراره على مشاركة الفرقة الدّركية إيانا ساعتنا تلكم، وقرأتُ عليهم جميعا بيانا خطابيا مضمونه: شكرهم على المداهمة وأنه لا يدركُ طعمَ هذا الهجوم الدركيّ الأمنيّ سوى من جربَ فقد الأمن. وكان تاجُ ندوتنا تلكم بصير البصيرة والأدب الأستاذ: قاسم موسى بالعدّيس، وشيخاها هما: حاج عمر والشيخ صالح، وشبابها كثرٌ من أبناء جزائر الحرّية.. – ثم جاء لقاؤنا بوجه (سيرتا) المشرق رئيس جامعة الأمير عبد القادر أ. د. عبدالله بو خلخال، الذي ملأني عشقا لكلمتَيْ (إسلام – عروبة) في زمن نحتاج كثيرا إلى هذا، بمستواهُ الذي تعلمتُ منه الكثير ، ووجدتُ فيه ما أبحثُ عنه من عالمية الدين والعروبة.. رجلٌ يصدمكَ بتواضعِ المعالي فيجبرُكَ على عشق هذه الكلمة في بلاد لا تحبها، لا يتعامل مع مرؤوسيه بمعالٍ بل ببساطة تختصر تواضع الكبار ومفهوم الاشتراكية التي بدأها أجدادنا من صعاليك العرب منذ جاهليتهم حينما قرروا نهب مال الأغنياء ودفعه إلى المحتاجين والفقراء.. رأيته مخاطبا مرؤوسيه ببساطة لا معاليَ فيها، ومسائلا تلميذتين خارجتين من قسمهما بلسان لا معاليَ فيه، وجاوبتاهُ بعيون محبّة للمعالي! – وفي قلب قسنطينة القديمة نستطيع اختصار التاريخ، بأزقّتها التي تسردُ لك تاريخا من الحضارات المتنوعة، يأخذنا ابن الجزائر(بشير نجار) مشيا على أقدامٍ أنهكتْها سياراتُ النفطِ المؤقّت، لترى في زقاقٍ واحدٍ تاريخ عالم من الحضارات المتعاقبة! – ويأتي مسك ختام مدينة التاريخ بلقاء مدير معهد عبد الحق بن حمودة (أ. بدر المنير داوودي) داخل معقله التقنيّ التعليمي الراقي مع إحدى وجوه الوطن التي تعتد بقوميتها مدام (عماري) وصحبهما، فنطبعُ عليهم قُبْلتنا الساخنة الأخيرة على (سيرتا) لنأملَ في لقاء جديد يطبعونه حيث أصروا على كتابة قصيدتي بنقشٍ فنّيّ يليق بموضوعها أكثر منها هي، والتي شَرُفَتْ بأن تحمل عنوان (من وحي الشهيد)، علّها تكونُ ذاكرةً بين جزيرة العرب وآلها من بني شهداء الحرّيّة في جزائر النّيف.. – قسنطينة: صخرة الحبّ والعروبة والتاريخ والعلم والأدب، ودّعناها بقول شاعرها الجميل محمد العيد آل خليفة: (فسلاما ولا أقولُ وداعا أبتِ النفسُ أنْ تراكَ بعيدا) وبقيَ لنا معها موعدٌ مع الأمل باللقاء، ولي التساؤل: أيّنا الظالمُ لحبيبه، عِلْمُنا في مشرق القلب والعروبة والإسلام، أمْ إعلامُنا في جزائرنا الحبيبة الحرّة المكتظّة جمالا وطبيعة واقتصادا وإنسانا؟ وزمانكمْ (سيرتا).