من خلال معرفتي بالجزائر، كبلد متنوع التضاريس والأقاليم والبنى الاجتماعية الحضرية والقبلية والبدوية، كنتُ ألتمسُ دَوما رؤية ذلكم كاملا ومعايشته، مع إدراكي مدى ثرائها ثقافيا وحضاريا.. لكنّ جبليّتي، كأحد قاطني جبال السروات في جزيرة العرب تجعلني أقبعُ -عند مجيئي إلى هنا- على هضبة (البهجة – العاصمة) المطلة على خليج الجزائر، لأتشبّعَ بزرقة البحر واخضرار بساتينها وحدائقها.. هكذا كانت تمضي إجازتي الربيعية قبل الربيع العربي الذي طال، مغادرا مطار (هواري بو مدين) إلى (جدة).. كنتُ أكتفي بالنوايا الطيّبة والأمنيات بزيارة الأقاليم الأخرى في جزائر التنوّع والجمال والحرّيّة ! حانَ الوقتُ الفاصل بتدخل الأديبة الجزائرية المعروفة (زينب الأعوج) مع الشاعر: حكيم ميلود لدعوتنا إلى حضور فعاليات اختتام ( تلمسان عاصمة الثقافة الإسلامية 2011)، فكان لقاؤنا الحميم مع أندلسنا المفقودة وضيافة الشاعر(حكيم)، ومدينة (بو مدْيَن) مستبعدا كلمة ( سيدي) حتى لا يغضب منّي أحد مرةً أخرى – ومع عاصمة (بني زياّن) وجبل (لَلاسِتّيْ) الذي يحتضنها بحنان . عشنا فضاءاتٍ أندلسية عربية وأمازيغيّة حيّةً كما قرأناها في التاريخ حنينا وشوقا.. وكانت نتائج عاصميّة تلمسان لهذه الثقافة ما شهدناه من تلكم المعالم العالمية التي يفخرُ بها كل عربي ومسلم، إذ استطاع الفاعلون هناك استثمار هذه العاصميّة بحكم ما يملكونه من خلفية حضارية وحرّيّة ثقافية وطبيعة ثريّة .. أدركنا أننا تأخرنا -كثيرا- في التحليق نحو أفق الجزائر الرّحب الذي لا يصح لعربيّ ألاّ يحلّقَ فيه، فتجرّأنا على العلوّ عن مفهومنا القيَمِيّ المحدود في الجمال، لنرحلَ جنوبا إلى بوابة الصحراء الكبرى(غرداية)! إذْ كان هناك رمزٌ عربيّ يعملُ في الجزائر العاصمة، ويؤمنُ -كثيرا- بمفهوم ثقافة علوّ الجبال ورحابة الصحراء وخصب السهول وبعالمية العروبة والأمازيغية.. أصرّ على إقحامنا في غياهب الكرم الجزائري (المزابيّ)، وتلكم ميزة تخصّ أصالة أبي هيثم بأنْ أقحمنا في عالمهم الكريم، فاقتحمنا! هناك اختلطتْ علينا أصالةُ ونيفُ (بني مزاب) الأمازيغ بالعروبة التي نعتدّ بها مهما أذابتْها العوادي والفصول.. لكنّ مركَّبَ قيم الدين والمجتمعيّة والمكان هناك، وآليات النّظُم المدنيّة الاجتماعيّة الحرّة الراقية، كانتْ أكثرَ عجبا، حتّى قرَناَّ مبرّراتِ نهضة اليابان بعدَ الحرب العالمية الثانية بوجود مثل منْ وجدناهم هناك! ولن نستغربَ يوما أن نرى في الجزائر نهضة مختلفة طالما ملكت بشرا منضبطا كأولئكم في ما لو أتيحتْ لهم آليات ذلكم! بدأ لقاؤنا باستقبال ابن غرداية وجه الصحراء النقي الشيخ الحاج: (محفوظ نجاّر) إيانا في مدينة (الأغواط)، لنجدَ أنفسنا وإياه نرزح تحت وطأة كرم وروعة وروحيّة المنشد الجميل (سيْ قْوَيْدِر) في داره الذي خاف بدايةً من سلفيّتي المعهودة ولمْ يلبثْ أن اكتشف عشقي للجمال، ثمّ انْتقلنا إلى مِلكيّة السيّد (محفوظ) وبنيه في جنانه، فاستقبال العظماء أمثال(مدير معهد غرداية: حاج موسى عيسى، والشاعر الأمازيغي: (عبدالوهاب فخار) والشاعر (الجعدي مسعود) وكانت لنا ليلة عمرٍ معهم أحيَتْها وجوه (مزابيّة) تشعركَ أن هنا أمةً ذاتَ خصائص خاصة.. ولمْ تكنْ زيارتنا قصر (بني يَزْقِنْ) أو(ازْقِنْ) سوى قمة وتاج المكان، فمنزل شاعر الثورة الجزائرية العظيمة (مفدي زكريا) ومكتبته، واستقبال مسؤولها إيانا متدثرا متزمّلا بعبق المكان ولباس الشاعر الكبير صاحب القَسَم بالنازلات الماحقات، بل وصاحب قصيدة (الذبيح الصاعد) وديوان (اللهب المقدّس).. ثم كانت ليلة روحية أخرى من ليالي قصر(القرارة) احتفاء بتخريج دفعات من أرواحنا الجدد من حفظة كتاب الله.. فإصرار (الحاج إبراهيم موسى المال) على تشريفنا بعشاء قصره الذي يتكونُ في مجمله من أرقى ثقافات المكان رافعا مستوى التصحّر إلى درجة العولمة، لنختمَ رحلة حبّنا بقبلةٍ سريعةٍ طبعناها على مدينة (بالرياّن) التي ذكّرتني فعلا ب(بقايا القرى القديمة المحيطة بالمدينة المنوّرة – خصوصا شمالي المدينة حتى العُلا ومدائن صالح) التي لم تزلْ بقاياها ظاهرة في جزيرتنا العربية رغم عوادي مسخ الزمن، يرافقنا الشاب ابن المكان :عيسى با عوشي) . انتهى اعتقال الكرماء لنا، وخرجنا من أجمل معتقلات الحب والكرم الباذخ، حاملين في ريَشِ أقلامنا ما تضيقُ به دون بَوْح، حتّى ألقَتْ علينا وزارة الثقافة الجزائرية قبضها الثقافي ممثلة في ناشطها (سمير مفتاح) مدير النادي الإعلامي بقاعة الأطلس ضمن برنامجه: (موعد مع الكلمة) ويوم ثقافي شرفني فيه سفير المملكة ( د. سامي الصالح) بحضور مستشار السفارة الأستاذ: محمود كيكي، فكان لنا مع (الأطلس) لقاء شعر وفكر وأدب.. كم هو مريح للعربيّ أن يجدَ في عالمه مكانا كالجزائر يغوصُ في أعماقه وشموخ أوراسه واتساع صحرائه وأفياء تعدديته الاجتماعية والدينية والثقافية عموما، كلما سمع عن ربيع سبق إليه هذا البلد منذ 1988، مما جعل زائره الآن لا يعيش ربيعا بمقدار ما يعيشُ كامل فصول الزمن.