كيف نفسر هذا الانتشار العجيب الواسع، وهذه الجماهيرية العريضة للقصيدة الشعبية أو العامية؟ سأسميها بالشعبية والعامية وإن يكن في التسميتين بعض الاختلاف، على أن الجيل الجديد الذي يكتب هذه القصيدة أقرب إلى فصاحة الصورة الشعرية منه إلى فصاحة المفردة الشعرية. هذه مفارقة كبيرة، أن تأخذ القصيدة العامية من ألق البلاغة العربية أحد طرفيها وتغيّب الطرف الآخر.. تحديث الصورة أو محاولة تحديث الصورة الشعرية وتهميش المفردة عن صفة فصاحتها من مناورات الشاعر الشعبي، قصد أو لم يقصد، وهذه المسألة مكان سؤال معرفي كبير، كيف نفسر هذا؟ إن اللغة الفصيحة بوصفها أداة ليست شرطاً لشعرية الشعر، كما أن الهيئة ليست شرطاً لاتساع العقل، على أن الهيئات قد تتخلّف عن الصفات فتكون أدنى منزلةً وأكثر التباساً برغم حسنها الظاهر. ونحن إذن لا نعد جمال الصورة في الشعر الشعبي أو العامي واقعاً في النطاق الذي تقع فيه اللغة أو الأداة التي تكتب بها هذه الصورة أو تُصب في قالبها. إن هناك انشعاباً يصل إلى درجة التضليل المعرفي لجماهير هذه القصيدة نفسها.. ذلك أن جمهور القصيدة الشعبية يقع في فئتين، فئة الصورة وفئة المفردة، فلا نكون إذن في حال التئامٍ جمالي إذا جاز التعبير. هذا يعني أن النص العامي نصٌ ملتبس يتوجّه إلى العامي بوجهٍ ولسان ويتوجّه إلى الآخرين من ذوي الحس الجمالي أو التمييز الجمالي بوجهٍ ولسان. ربما كان ذلك سرّ هذا الانتشار العجيب الواسع وهذه الجماهيرية العريضة لذلك النص أو تلك القصيدة، أن لها وجهين اثنين ليس وجهاً واحداً ولها لسانان اثنان ليس لساناً واحداً. إن شعبوية الشعر الشعبي راجعة إلى تحويل اللغة إلى لغة محكية معزولة عن نظامها النحوي الصارم المتعالي وعن نظامها الموسيقي المنضبط، ولذلك فإننا نلاحظ أنه حتى النظام الموسيقي للقصيدة لا يستقيم إلا بتلهيج اللغة وإيقاعها في شرط اللهجة المحكية أو اللغة المحكية أو العامية. تلهيج اللغة وتطويع اللسان للتلهيج ليس للنظام النحوي ولا النظام الموسيقي للنحو أفضى إلى صناعة لغة في اللغة وإلى صناعة عقل مختلف أو ممايز. وعلى الرغم من أن ذلك يوهم بإدراك جماليٍ ما أو بتقريب فرادة الصورة الشعرية المبتكرة إلا أنه نادراً ما يكون ذلك. إننا لا نصنع ذائقة فريدة ولا نخاطب ذائقة متميّزة بقدر ما نخاطب في الناس مألوفاتهم وعامياتهم -إلا ما ندر- ولذلك فإن خيطاً شفيفاً من سطوة المألوفات يجعلهم أكثر قبولاً وتجمهراً عند سماع القصيدة الشعبية أو التنويه عن أمسية شعبية هنا أو هناك، فضلاً عن اتساع المد الإعلامي وصناعة النخبوية بشرطها الجديد، بينما لا تجد في أمسية شعرية فصيحة إلا قلة من الغرباء يستمعون. وللحديث صلة إن شاء الله.