الصداقة دال تفاعلي مشتق من الصدق. منطق اللغة العربية يقول هذا، ومنطق الحياة السوية يفترض أن يعزز القول ويسنده. وهناك أدبيات تفوق الحصر تصلح شواهد على وجاهة المنطقين. طبعا لن أورد شيئا منها لأن ذاكرتي ستخونني (أصبحت انتقائية جدا وضعيفة جدا والعوض على الفكر والمخيلة). فقط أريد التوقف عند الخسارات التي يتورط فيها الإنسان حينما يخلط بين قيمة الصداقة وحماقات الأصدقاء حين يكذبون أو يخدعون. ولعل أقبح الخسارات وأكثرها فداحة على الروح والعقل تتمثل في الإحباط الذي قد يدفع إلى الشك في كل أحد، و بدهيّ أن نزعة نفسية، أو نزغة شيطانية كهذه لن تبرأ أبدا من ظلم الذات وظلم الآخرين. وهنا أظن أن الثقافات السائدة في المجتمع تلعب دورا حاسما في إغناء معنى الصداقة أو في إفقاره أو حتى في تزويره. ونظرا لاشتغالي الطويل نسبيا على اللغة، جمالية كانت أو فكرية أو معرفية، فكثيرا ما تلفت انتباهي تعبيرات تصلح مؤشرا على عطب أصاب علاقاتنا اليومية. كثيرون هم الذين يميلون إلى سوء الظن في الآخرين والاستطراد في الحديث عن عيوبهم لتبرير النفور منهم. وحين تسأل باحثا عن السر تجد الشخص يسرد لك سلسلة من الخيبات التي تعرض لها، مؤكدا أن أشدها وقعا جاء من جهة الأصدقاء تحديدا. طبعا، لا بد أن أبدي بعض التفهم وبعض التعاطف لكي أمضي، وبطريقة سقراطية مبسطة، إلى أمر آخر. أطرح سؤالا عن معنى الصداقة محاولا عزلها كقيمة خلقية عليا أو فاضلة عن تصرفاتنا التي لن تكون مثالية أبدا. وحين ألاحظ ارتباكا في الملامح أو خلطا في القول أعمل جاهدا لبيان نسبية معاني الصداقة العملية لأصل إلى حقيقة أن الصداقة المثلى حلم جميل نظل نبحث عنه طوال الحياة دون أن ندركه. ولأن التمثيل فعال في هذا المقام فلابد منه. وإليكم طرفا من حديث جرى مع أحد الأقرباء الذين سعدت بلقاءات مطولة معهم في القرية وكنت ولاأزال أعده من أفضل أصدقائي. قلت له: هناك شخص أرتاح له لأنه وجه سمح وحديثه جذاب وتصرفاته متزنة بحيث لا يمكن أن يصدر منه أي فعل عدواني.. مثلك يا صاحبي. شخص آخر يميل إلى الانطواء على ذاته وكتبه وأجهزته الاتصالية لكنني أشتاق إليه من حين لآخر فأغريه بالخروج من عزلته لنلتقي ونغرب ونشرق وبيننا الكثير من الأفكار المتقاربة والقيم المشتركة.. مثل قريبنا فلان. وهناك نمط ثالث قد لا أرتاح له كثيرا ولا أنسجم معه دائما، لكني ما إن أواجه موقفا صعبا حتى أتذكره وأتواصل معه واثقا أنه خير من سيعينني على تجاوز الموقف.. مثل صديقي رجل الأعمال فلان (والصديق وقت الضيق كما يقال). وقد أصادق شخصا من جيل أبنائي لمجرد أنه طيب ويحب الغناء بألوان شعبية تثير الشجون.. مثل صديقنا المشترك الشاب فلان. وهناك شخص تفتقد حضوره في لحظات الحياة الأكثر عمقا ورهافة، ولن تدرك أي سبب ظاهر لشعور كهذا (ولم أضرب له مثلا بأحد هذه المرة لأنه لا يعرف مبدعين مثل قاسم ولبنى الأمين، أو جبير وعبدالله ثابت، أو طاهر رياض وبسمة النسور). طبعا كنت أتحدث وفي ذهني أن أبواب الصداقة أكثر من أبواب المحبة عند صاحبي ابن حزم. لكنني فوجئت بصديقي القروي البسيط يسألني عن موقفي من شخص يتظاهر بالمودة والكرم وخفة الروح لكنه قد يكذب عليك، وربما خذلك بمعسول القول وقبيح التصرف. عنصر المفاجأة أنه ضرب لي مثلا بصديق شكوت إليه أمره قبيل أيام. ولأنني لم أكن مستعدا لأي إجابة، ولا يمكن أن أقول كلاما يعزز سوء الظن لديه فقد اكتفيت بالتفلسف عسى أن نخرج من الموقف بأقل الخسائر. وكنت صادقا تماما حينما قلت: حسنا يا صديقي. سنعود إلى منطق القيم وعليك الحساب. هناك من نحب ونحترم، ومن نحب ولا نحترم، ومن نحترم ولا نحب، ومن لا نحب ولا نحترم. ولو أخرجنا النمط الأخير (وليسوا كلهم أعداءنا بالضرورة) لبقي لنا ثلاثة أرباع العالم أصدقاء وصديقات.. أفلا يكفي هذا؟! لم يجب. شعرت أنه لم يتفهم أو لم يقتنع تماما بما قلت ولذا أنشدت له: أدين بدين الحب أنى توجهت... ركائبه فالحب ديني وإيماني وكم فرحت وصديقي الشاعر الشعبي المتميز يطلب المزيد عن ابن عربي.