سعدتُ أمس بفرحة السيدة العجوز، عائشة من «الباحة»، لعناقها صوت الأمير «متعب بن عبدالله» الذي عرض عليها الإقامة بقصره في الرياض، عرفاناً لخدمتها أسرته الكريمة قبل أربعين عاماً. توقفّت كثيراً لما قاله «معيض الغامدي» الذي يكفل العجوز التي لم يتبق من أسرتها أحد، قال: (تكفّل بها والدي قبل ربع قرن، وأوصانا قبل وفاته أن نحسن إليها ونرعاها لأنها على درجة عالية من الأخلاق الكريمة والقناعة من الدنيا). يا الله.. لم يخلق الله العيون، أية عيون، «التي في طرفها حوَرٌ أو غَوَرُ أو رمدٌ»، فقط ل(تقتلننا ثم لم يُحيين قتلانا)، بل لتبكي في خشية الله تزلفاً وقُربى وطاعة وطمعاً في رحمةٍ وغفرانْ. فكم من عيونٍ بكت لفرحة عائشة، ووفاء الأمير، وبِر الغامدي لوصية والده؟! زُرت قبل سنوات داراً للمسنين لإعداد فيلم وثائقي عن الجانب الآخر من حياتهم بعد استيفاء ضوابط الخصوصية المطلوبة، وما أن شاهد أحدهم الكاميرا حتى جمع رفاقه مُشيحين بوجوههم صوب الحائط، كناية عن الرفض المطلق. أغلقت عيون الكاميرا وصرفت صحبي فعاد الشيوخ يتسامرون. وجدت شيخاً وقد تزحزح بصعوبة من مكانه ليجلس قُبالة كومة هائلة من الملابس. دسّ يديه المعروقتين في «طشت الغسيل» حتى اتّحدت لحيته بالرغوة البيضاء. دندن الشيخ بأغنية من الزمن السحيق، هطلت الدموع مدراراً من عينيه محدثة ثقوباً في جدار الرغوة المتماسكة، فيما كان يحاول جاهداً تحريك قطعة الصابونة من تحتها. سألته: (الهدوم دي كلها حقتك يا أبوي)؟! قال: (لا، بغسّل ملابس أخواني عشان أوفّر مصروفي).. اللهم قيّض ببركة هذا اليوم لآبائنا من يرحمهم ويوقّرهم.