عُدت ذات مساء لبيتي أجرجر ساقي من التعب، وقبل أن ألقي بهما (تحت السرير) لأرتاح، سمعت نواحاً من بيت مجاور، قيل لي بأن بنتهم ماتت، وإمعاناً في سكب مكسرات الحزن على الخبر لأستسيغه، قال لي جاري: (البت كانت زي الحصان قبل دقايق، رجعت من الجامعة ورقدت كدا ماتت، الحكاية دي فيها إنّ)! انتعلت قدميّ من تحت السرير وخرجت لأتبيّن الأمر، صار بيت جارنا مثل قطعة مغناطيس عملاقة تستقطب الناس ما بين مشيّع ومستفسر ومستغرب وباحث عن فضيحة، تجمّعوا قريباً من بوابة الحزن التي تتدفق منها النساء والرجال في بعضهم يتساءلون. (طيّب ليه ما شالوها المستشفى طوالي)؟! (شكلها كدة عاملة مصيبة، وانتحرت، ربنا يغفر لينا). كلّما توقفت قُبالة كتلة بشرية مشتعلة بالحديث عن (تداعيات موت الفجاءة). يتسلسل الهمس ليغوص في (حتة ضيقة)، تبتعد عن المواساة وتقترب من (نبش) سيرة الأموات وتحليل دوافع خروج الروح (فجأة) دونما جناية ذات علاقة بالأخلاق، كأنّما الموت صار حكر على أخطاء الأطباء. في حافة القبر، تحلّق ألف مهندس جيولوجي يفهمون في التنقيب عن البترول ومواراة الميت في ذات الوقت، استغلالاً للحُفر الوطنية. أشفقتُ على جنازة (بت الجيران) حين حُشرت في القبر، والحفّارون في اختلاف من أمرهم، كُلُّ ينصح الآخر بإنزال الجُثمان في اللّحد بزاوية إسقاط معينة، تحقيقاً لمقاصد الشرع وتسهيلاً لبعثها يوم القيامة كما يزعمون، بذات منهج كتّاب الأعمدة حين يصطرعون في مطابقة (التفحيط) لمذهب أبي حنيفة. لماذا فقد الموت قدسيته وبتنا ننبش في سيرة الراحلين قبل مواراتهم؟!