تلقت القنوات الإخبارية الخليجية ضربات قوية من الانتقاد، خلال الربيع العربي، على أدائها الإعلامي، وبلغ النقد ذروته في الحدة والقسوة إِبّان الثورتين المصرية واليمنية، وكان لقناة «الجزيرة»، وتليها «العربية»، النصيبُ الأكبر من النقد الذي طعن في مهنيتها وعرّى ماعدّه منتقدوها انتهاكاً صارخاً لأخلاقيات العمل الإعلامي. شارك في تلك الحملة النقدية غير المنظمة إعلاميون متخصصون وعدد من كُتّاب «الرأي» في الصحافة المحلية على وجه التحديد. وتركز النقد على انحيازها بشكل كبير وواضح إلى جانب الجماهير الثائرة، ضاربةً بعرض الحائط، حسب أقوالهم، الحيادية والموضوعية اللتين يتوجب أن يتصف بهما أداؤها. وقد ذهب بعض المنتقدين إلى حد القول باقترافها لخطيئة تهييج وإلهاب مشاعر الغضب والسخط الكامنة في الجماهير العربية في بلدان ثورات الربيع العربي بطريقة تهدد بحرف تلك الثورات من المسار السلمي الذي انتهجته منذ البداية. وقد خُصَّت «الجزيرة» بالتلميح تارةً، والتصريح تارةً أخرى بانحيازها إلى تيار سياسي معين في الثورة المصرية، وكان المقصود «الإخوان المسلمين» وقد عزّز هذه الرأي علاقة «الجزيرة» بالشيخ الدكتور يوسف القرضاوي فقيهها وَعرّابُها الديني، الذي شهد العالم حرصه وسعيه إلى لعب دور العرَّاب للثورة المصرية، وإمامها في الغياب والحضور، كما تجلى في زيارته لمصر وإمامته المصلين في ميدان التحرير. وأكد المنتقدون ضرورة التزام القنوات الإخبارية بالحيادية والموضوعية فيما تبثه من أخبار وتقارير عن الثورات العربية، وعدم الانحياز لأطراف معينة على حساب أطراف أخرى. اللافت أن النقد الموجه للقنوات الإخبارية الخليجية هو بحد ذاته في حاجة لوقفة تأملية ونقدية به لتسليط الضوء على العيب الكبير فيه الذي يتجسد في مطالبة تلك القنوات بتحقيق المثالي المستحيل، بأن تلتزم منهج الحياد في تغطيتها الإخبارية لتطورات الأحداث والوقائع في الثورات العربية. إنني أعدُّ ذلك مطلبا مثاليا مستحيلا ليقيني بأن الحياد الذي يصبون اليه، هو ضرب من المستحيل الذي لن تبلغه أو تحققه أية قناة إخبارية سواء في الشرق أو الغرب، حتى تلك القنوات الغربية، التي غالبا ما يشار اليها بالبنان وفي البيان كأنموذج للمؤسسات الإعلامية التي أقامت صروح سمعتها وشهرتها على قواعد من الحيادية والموضوعية والالتزام بأخلاقيات ومعايير العمل الإعلامي. لست في صدد الدفاع عن القنوات الإخبارية الخليجية، ولكن التغطية الإخبارية المحايدة حيادا تاما هي رابع المستحيلات. ولا يلزم أن يكون المرء متخصصا في الإعلام ليقول ذلك، فحتى تلك القنوات التي تعد أنموذجا للأداء الإعلامي المتسم بالحيادية، لايطول بالمراقب الأمد قبل أن يكتشف أنها لا تستطيع التشبث بذلك المبدأ دائما لاعتبارات ودواع أيديولوجية أو سياسية أو براغماتية. أعتقد أن ما ينبغي أن نطالب القنوات الإخبارية الخليجية والعربية عموما بالحرص على تحققه في عملها ومبثوثاتها ليس الحياد (neutrality) أو عدم الانحيار لطرف من الأطراف، إنما العدل أو الإنصاف (fairness) عندما تكون التغطية حول قضية خلافية أو صراع فيه طرفان أو أكثر. الإنصاف يعني إعطاء كل طرف ما يستحقه من وقت وفرصة للتعبير عن وجهة نظره، حتى لو كانت قناعات وعواطف ومشاعر العاملين في القناة تميل إلى الطرف الآخر. أما الحيادية فلن أفكر أبدا في مطالبتها بها، لأنني أدرك تماما أنها لن تدركها. إن الانحياز كنقيض للحياد شىء يستحيل على أية قناة تجنبه سواء كانت رسمية أو خاصة/مستقلة، عربية أو غير عربية. والطريف أن من طالبوا تلك القنوات بالحياد والبعد عن التهييج والتجييش، وقعوا فيما نهوها عنه، كما يتجلي في صمتهم وتوقفهم عن انتقاد تغطياتها لوقائع وتطورات الثورة السورية، التي لا يختلف اثنان حول انحيازها انحيازا كاملا إلى جانب الجيش الحر والجماهير السورية الثائرة، أما الإنصاف فيبدو واضحا أنها لا تستطيع ممارسته في متابعتها ليوميات الثورة السورية، ولا يمكن أن تفكر في ممارسته لدواع وأسباب سياسية وأيديولوجية تفرضها حقيقة انتمائها وهويتها القطرية والإقليمية، ومصادر تمويلها.إن تلك الأسباب التي شكلت ولونت تعاطي القنوات الإخبارية الخليجية مع الثورة السورية قد مارست تأثيرها على أولئك المنتقدين أيضا، فلم نعد نسمع أصواتهم، واختفت كتاباتهم من الصحف المحلية على نحو مماثل للاختفاء الكامل للصوت والصورة المُمَثِلين رسمياً للنظام الحاكم في سورية من تغطيات تلك القنوات، التي كشفت بهذا السلوك تماهيها الكامل مع الخط السياسي الإقليمي، مُعَرِّيَةً علاقتَها وارتباطَها الوجوديين به، ومُقَدِّمَةً الدليلَ لمن يقول بأنها امتداد أو مجرد تنويع على الإعلام الرسمي، تتسع وتضيق مساحة حريته وفقا للظروف. خلاصة الكتابة، الإنصاف هو المحك والتحدي الحقيقي وهو المطلوب من تلك القنوات بغض النظر عن مواقفها الخاصة من الأطراف في أية قضية أو خلاف، أما الانحياز فهو كالليل الذي يدركها دائما ويدركني أنا أيضا!