تحتفل قناة «الجزيرة» القطرية، أو «شبكة الجزيرة» هذه الأيام بالذكرى ال15 لانطلاقها. تحتفل بالبرامج والمحاضرات والندوات والوثائقيات، والمدائح والخطب العصماء، مع إطلاق برنامج ينطوي على فكرة رائعة عن التدريب الإعلامي، بعنوان «وجه جديد»، تحتفل «الجزيرة» مع تقدمه الصفوف في ليبيا التي كانت، حسب رؤية «الجزيرة»، ساحة من ساحات الانتصار لل«جزيرة» على خصمها القذافي، كيف وقد رفعت إعلام قطر جنبا إلى جنب مع علم «الجزيرة» في ساحات بنغازي، وعمد أحد مصوريها، بالدم، دور القناة القطرية في «الربيع العربي». «الجزيرة»، كما يقول الخطاب القطري الرسمي، مستقلة، وتعبر عن نفسها، وكذلك يقول نجوم «الجزيرة» أمثال أحمد منصور وغيره. وليس لنا ألا نصدق ما يقال لنا، وليس مهما أصلا أن نعرف أنها مستقلة أم لا، المهم أن نعرف دورها وعقلها وخطابها. أما خطابها وعقلها، فهو أوضح من عين الشمس لمن يحسن القراءة، وأما دور «الجزيرة» منذ انطلقت، وحتى الآن، فهو فقط، حسب الندوات والمحاضرات والبرامج التي شاهدتها على قناة «الجزيرة مباشر»، من قبل منسوبي القناة ومعجبيها، وضيوفها، بمناسبة الذكرى، أنها نصيرة للحرية ومستقبل الشعوب العربية، مع التمسك بالمهنية طبعا، بعبارة أخرى القناة مسيسة وليست مستقلة بشكل تطهري تام، وهذا أمر طبيعي ولا عيب فيه، بل العيب على من يظن وجود «خرافة» الاستقلال التام، مثل وجود الغول والعنقاء والخل الوفي.. تحتفل «الجزيرة» بعد أن أصبحت هي، وفق «مريدي» القناة، جزءا من الحدث وليست مجرد ناقلة له، أصبحت، حسب تصور من يديرها ويملكها طبعا، هي «قائدة» الثورات العربية، ومنبرا لحكماء ونجوم المعارضات العربية من شيوخ وشبان، من هيكل إلى القرضاوي إلى بشارة إلى النفيسي، فهؤلاء أصحاب المقاعد المحجوزة والمضمونة، وطبعا هي صوت الشعب.. أي شعب! طبعا هذا بحث آخر، خصوصا بعد انفجار الشعوب العربية. تحتفل بعد أن ودعت «الجزيرة» ثوبها الإخواني الصرف، بمغادرة المجاهد الإعلامي وضاح خنفر، ولكن لم تتغير نكهة «الجزيرة» تماما، بل أضيف إلى البهار الإخواني بعض التوابل القومية واليسارية، نسخة 2011 مطعمة برائحة الربيع العربي. الجمهور العربي الغاضب والمحبط، في البلدان المضطربة، مصر وليبيا وتونس واليمن، والآن سوريا، وطبعا فلسطين قبل ذلك كله، هو الذي كان يعشق «الجزيرة»، لأنها تقول ما يرغب في قوله، وتعرض ما يرغب في عرضه وتغني على ليلاه، كما بقية القنوات العربية... لكن هذا الجمهور متقلب أيضا، خصوصا في هذا السنة، بعد أن انفجرت مياه الثورات من الأرض وهطلت من السماء بغزارة، وتحطمت السدود الترابية، فلم يعد الجمهور جمهورا صلبا موحدا، كما كان في السابق، فقد ذهب العدو (النظام الحاكم) وواجه الثوار بعضهم، ولذلك وقعت «الجزيرة» في حرج تحديد البوصلة، وأصبحت الآن في مواجهة مباشرة مع الجمهور نفسه! لذلك رأينا من يهاجمها بعد سنوات المديح في مصر وليبيا، كما هوجمت من قبل «أصدقاء» الأمس، مثل حزب الله في لبنان، بسبب اصطفاف الحزب الإلهي الأصفر مع نظام بشار الأسد في سوريا، وتكريره للرواية الأمنية حول الحدث السوري. وغادر في هذه المرحلة نجوم أمثال غسان بن جدو ولونا الشبل «الجزيرة»، بسب ما يرونه «انحياز الجزيرة» الفج، الذي للتو اكتشفوه..! بكل حال نحن نتحدث فقط عن القنوات الإخبارية لل«جزيرة»، وليس عن خدماتها الأخرى الرياضية والوثائقية وغيرها، فهذه والحق يقال من أرقى الخدمات الإعلامية المقدمة للمشاهد العربي. لعل من مزايا هذا العام، هو أنه قد كشف الغطاء عن المواقف الحقيقية للأطراف كلها، وهذا ليس سيئا، فقد كشف الأصوليون عن حقيقة مشاريعهم، وعرفنا طرفا من رغبات الجمهور العربي، وعرفنا بالملموس، عمق العطب الفكري والثقافي في المجتمعات العربية، وانتهى التحالف «المؤقت» بين قوى الممانعة، بعد أصبحت وجها لوجه أمام كعكة السلطة، ومعها تبخر الغموض البناء الذي كان يوحد ما يسمى بقوى الممانعة الوطنية، التي كانت تجمع اليساري الماركسي بالأصولي القطبي (نسبة لسيد قطب). وهذا الأمر بلا ريب يجعل القوات الإعلامية التي كانت تعبر عن هذه القوى «الوطنية» مجبرة على ترك الخطابات الفضفاضة والدخول في أزقة التفاصيل.. وفي التفاصيل شر كثير.. وخير كثير أيضا. نوفمبر (تشرين الثاني)، الذي تحتفل فيه «الجزيرة» بانطلاقتها، ذكرني بنوفمبر آخر، تحديدا سنة 2005، حينما أشيع وقتها أن الإدارة الأميركية كانت تعتزم قصف قناة «الجزيرة»، وقد هلل لهذا الأمر بعض معجبي «الجزيرة» من «كبار» الكتاب العرب. حينها جاء في هذه المساحة الحديث أن «الجزيرة» أحدثت ثورة في الإعلام العربي، وهي تدير أداءها الإعلامي، وأنا هنا أتحدث كمشاهد، ببراعة، ولديها الكثير مما يسجل لها، ولكن عليها الكثير أيضا، ولعل من أبرز هذا الكثير تحولها إلى (طرف) صارخ في انحيازه إلى معسكر الأصولية وتهييج الشارع العربي، المفتوح الجراح أصلا، من دون أن تسأل نفسها: تهييج وتهييج، ثم إلى أين؟! ومن سيظفر بنتائج هذا التهييج في العالم العربي، أهل النور أم أهل الظلام؟ أهل المستقبل أم أهل الماضي؟! خصوصا إذا علمنا أن من نتائج هذا التهييج تحفيز شاب صغير، مثل السعودي أحمد الشايع الذي كاد أن يموت بعد تفجير السفارة الأردنية في العراق، وقد اعترف على شاشة التلفزيون في السعودية أنه تأثر بقناة «الجزيرة». وكلنا نعلم عن الثناء الذي تتلقاه «الجزيرة» بشكل دائم من قبل أصوليي «القاعدة»، من أبي أنس الشامي، مفتي الزرقاوي في العراق، الذي أثنى على تغطية الفلوجة التي قام بها (الأخ) أحمد منصور، كما وصفه الشامي، إلى أيمن الظواهري الذي تحدث عن «الجزيرة» ب(ميانة) في رسالته الأخيرة إلى صديقه الزرقاوي. كان هذا قبل 6 سنوات، في ذروة اللحظة الأصولية الثورية في العالم العربي، وهيجان «القاعدة»، وصيحات «الله أكبر» لمراسل «الجزيرة» من الفلوجة! الآن نحن نعيش في المرحلة الجديدة أو المظهر الجديد بشكله «الديمقراطي» الثوري، ولكن تقريبا نفس الوجوه موجودة، مع إضافات طفيفة، ونفس النهج التحفيزي التعبوي... فهل نحن أمام 5 سنوات أخرى من التهييج الشعبي، بلافتة جديدة هذه المرة، خصوصا مع وجود لاعبين شعبيين أتقنوا فن التحشيد في ال«تويتر» وال«فيس بوك»؟ ليت الموضوعية والفائدة التي تبثها «الجزيرة الوثائقية» تعدي عدوى طيبة جارتها الإخبارية، وتعدي أيضا كثيرا من القنوات العربية الأخرى التي تحولت إلى «بيبي جزيرة» في أرجاء السماء.. ولا نقول إلا كل عام و«الجزيرة» بخير، على الرغم من كل اختلافنا معها في نهجها السياسي التحريري، لكن يبقى أن «الجزيرة» نقلا عن الشرق الاوسط السعودية