فقط لو لم يكن وجهي على تلك الناحية في تلك اللحظة التي وقف بها زمني ، فقط لو انحرف بصري قليلا تلك اللحظة لما وقعت عيني عليه ، لحظة واحدة سكب الله لي فيها رحمته فجعل وجهي ينحرف قليلا فتقع عيني عليه حتى إنني ظننته شهق حين شهقت .. على ضفاف بحيرة(لوزرين) في سويسرا كان هناك يجلس في نفس المقهى ، بين يديه (لاب توب) هو عدنان ، كأن الزمن ثابت عنده لم يتغير ، لم يكبر لازال ذاك الذي تشع الدنيا من عينيه ، يرقص الربيع وترقص الآه معه وهو يردد المقامات العراقية ، لازال هو كما كان في القاهرة قبل أربعين عاما، حيث كان للدرس معنى ومغزى ، ولكلية الحقوق بهجة .. لازال عدنان كأيام القاهرة ..حيث كان الألق والوهج ..وصوت أم كلثوم وهي تردد (أراك عصي الدمع شيمتك الصبر..) .. لازالت السعادة والألم، الفرح والحزن ، لازال عدنان هو هو .. أنهال عليه نظرا وكنت قد ظننت أنني نسيته ونسيت الماضي . والتدريب على المرافعات ، حيث حاولت كتابة قصيدة كمرافعة تحكي شجون الشباب ، لازلت أذكر مطلعها : (يا سيدي القاضي ..أما تعلم أشجاني . ما بين حصار الحق وصراع الجاني .. بين سارق خبز.. وسارق أوطان.) هي الذكريات تتحدى الزمان والمكان وينتصب أمامي (عدنان ) بكل ما يمثله لي من حب ومن ألم ومن حماس الشباب ، هو الذي ترافع في محاكم الدنيا وكسب آلاف القضايا وخسرت قضيتي معه .. أربعون عاما كيف انطوت ، وكيف طوت معها الكثير من أحلامي وشبابي ، وهذا الجسد الذي أعياه الحمل فبدأ يتهاوى..أخجلني وجهي الذي ذهبت نضارته ، ونظارتي الطبية وحذاء الرياضة الخفيف بعد أن كان للكعب العالي موسيقى تطرب .. كانت ذراعاي مفتوحتين ، قلبي قنديل يتوهج ، وينطط كطفل يرقص للمطر .. هززت أحلامي أوقظها ، وأحضنها ، لكني وجدت أنني احضن الهواء . خجلت أن أذهب إليه أسير فيرى مدى تغيري .. كنت أريده أن يأتي لي كما كان يصافحني ويقبل يدي ، ويقول بلهجته البغدادية (شلونج أعيوني). ثم يجلس ونتكلم ونتكلم ومن ثم ننثر على البحيرة أغانينا القديمة ، مثلما كنا على شاطئ النيل .حيث غنيت له (يا علي صحت بالصوت الرفيع ) وحكيت له حكاية (ابن لعبون) والمرأة التي تواجد أخاها في المكان .. غنى لي (قل للمليحة في الوشاح الأسود) ... كنت ألملم الحجاب الأسود حول وجهي ، وأنتظره .. عدنان لم يتحرك ، التفت ثم أنزل رأسه وراح في عالمه مع (اللاب توب ).. هي لحظة لو أفلتها لن تتكرر أبدا ، قلت لنفسي ، إن ربي جعلني أكون في هذا الزمان هنا في هذه اللحظة وأدار رأسي لأراه في هذا المكان ، إنه قدر لا يتكرر ، سحبت من حقيبتي بطاقتي ، طلبت من أحدهم إيصالها له . التفت وعلامة استفهام كبيرة على وجهه ، وقدم لي ، قال لي بالفرنسية : نعم سيدتي ، رددت عليه بفرح : عدنان ألا تتذكرني ؟ ابتسم ابتسامة كبيرة وقال : أنا ابنه . أتعرفينه سيدتي؟ .. يتردد يغيب نظره قليلا وكأنه يسترجع شيئا ما ويقول : السيدة (كماشة) اللي كان يكلمنا عنها ..خرج اسمي (كماشة) كما كان يقوله عدنان ، وتداعى لي مناقشاتنا حول اسمي ، وكيف حدثته عن اللؤلؤ وأنواعه وكيف يدعى كماش ، بكاف أعجمية .. وحدثته عن الدانة والموزة والحص وأنواع اللؤلؤ.. عن أبي النوخذة . وعن اليامال حدثته كثيرا عن البحر وعن لقاء البحر بالنهر ، عندما عانق شط العرب الخليج العربي .. جرني ابنه الشاب (سعد) من الذكريات .. حكينا كثيرا، كثيرا جدا عن والده وعني وأخبرني أن والده رفض ترك العراق ، وأنه لازال يعيش في البيت القديم في الأعظمية وتحديدا في راغبة خاتون .وأسأله :هل لازال القداح يشرق في نيسان ؟ يقول لي: نيسان غادر العراق ..سيدتي .. أشعر أنني لازلت أكلم (عدنان) هو بوهجه وألقه وحبة بغداد على خده .. قال سعد ، إنه هنا يدرس التصميم الداخلي ، طلبت منه بخجل أن يغني مقاما عراقيا ، فغنى وغنى حتى انهارت دموعي على (نخل السماوة ، وعلى جسر المسيب). . من خلال دموعي تأكدت أن سعداً يشبه والده كثيرا غير أن (حبة بغداد) لم ترتسم على خده...