مَنْ يعرفني عن كثب من الأصدقاء والمعارف، يعرف بأني غير متحمس للرئيس التركي السيد رجب طيب أردوغان، لكنني تعاطفت معه بحماس حينما حصل عليه الانقلاب العسكري الذي باء بالفشل، وحقيقة الأمر بأن الرجل ناجح لبلاده وشعبه، وإن كان يسقي العرب العرباء الكلام المعسول، ويُطعمهم الهواء، لكن القوم لدينا من المندفعين له راضون بهذه القسمة منه. ما لفت انتباهي في ساعات الانقلاب الفاشل على أردوغان عدة أمور سأحاول الحديث عنها في هذه الزاوية، فالشعب التركي رفض الانقلاب لأنه مؤيِّد للديمقراطية، بينما العرب العرباء رفضوا الانقلاب تأييداً لأردوغان، وهناك فرق كبير بين مَنْ يحرصون على بقاء المبدأ، وبين مَنْ يتحمسون لتقديس الأفراد، وهذا في ظني هو المعضلة والتميُّز في آنٍ واحدٍ. كلمات بسيطة عبر وسيلة من وسائل التواصل الاجتماعي لم تستغرق ثوانٍ معدودات قلبت كل الموازين، وجعلت الأتراك يتقاطرون على الميادين لإفشال المشروع الانقلابي، وتحوَّل ليل تركيا والأتراك إلى كرنفال شعبي أذهل الجميع، تحوَّل الأتراك بإسلامييهم وعلمانييهم إلى صف مرصوص وبنيان شامخ ضد أطماع الطامعين لسرقة منجزاتهم الوطنية في جنح الظلام، ليس بسبب شخص السيد أردوغان، بل بسبب صفته الاعتبارية كونه الرئيس الحامي للدستور والشرعية. هناك عدة نقاط دفعت الشعب التركي لإفشال هذه المؤامرة عليه، أهمهما: الديمقراطية التي أشعرت الأتراك بأنهم هم الذين يوصلون قادتهم ويسقطونهم لا دبابات الجيش، ثم: الإصلاح الاقتصادي الذي لمس الشعب ثماره وحوَّل تركيا من دولة مدينة مهزوزة الاقتصاد إلى دولة ذات ثوابت اقتصادية متينة، وبعدها: كراهية حكم العسكر الذين عاثوا في البلاد فساداً، وأسقطوها في براثن التخبط والديكتاتورية والقهر، لهذا خرج الجميع، وصرخت الأحزاب على اختلاف مشاربها رافضة هذا العبث العسكري الذي قام به الجيش، ثم: انقسام الجيش ووقوف الأمن والاستخبارات مع شرعية الدولة، ما أحدث حالة من البلبلة والفوضى بعثرت الأوراق، فصار المدنيون يقبضون على العسكر، وأمست الشرطة تطارد رجال الجيش في مشهد غريب وعجيب، وربما الحدث الأبرز: استجابة الشعب للرئيس الذي طالب الجميع بالنزول إلى الشوارع تأييداً لحكومته التي انتخبها بنفسه، علاوة على ارتفاع أصوات مكبرات الصوت في المساجد، في استحضار واضح وجلي لدور المسجد في المجتمع الإسلامي، إذ كانت المساجد في تلك الساعات من أقوى الأصوات الرافضة لسيطرة العسكر على مقاليد الأمور، وبالإضافة إلى كل تلك العوامل التي تم تعدادها في الأسطر السابقة، كان الحب هو المحرك الأساسي لها، فحب الديمقراطية، وحب الشعب للإصلاحات الاقتصادية، وحب الحكم المدني المبني على كراهية حكم الجيوش الذي جاء عبر صناديق الاقتراع، أمور أفشلت الانقلاب، وأفسدت المخطط التآمري. مَنْ كان خلف شاشات التلفزة يومها يتابع القنوات العربية في ليلة الانقلاب، وجد العجب العجاب، فهناك قنوات تليفزونية تقول إن العسكر ثاروا، وأن الجيش يقود ثورة ضد نظام الحكم، وفي المقابل هناك قنوات تعاملت مع الوضع على أنه انقلاب عليه، لذلك كانت تلك القنوات كما تقول «نتحفَّظ على بعض الأخبار» في سياسة واضحة بأنها ستنشر ما تريد، لكيلا تسبِّب إرباكاً، لهذا كان صوتها شاحباً، وهي تغطي مجريات الأحداث، وكأنها طرف في هذه المعادلة، وهناك قنوات إخبارية كانت تتعامل منذ الوهلة الأولى على أن الانقلاب نجح، وكان الحماس بادياً عليها في أثناء تغطيتها العملية الانقلابية، ما دعاها للقول في نهاية المطاف إن الانقلاب «فشل مع الأسف»، وكأنها هي التي تدير المشروع الانقلابي. لا يبدو هناك حل لأزمة العرب العرباء، فالليبرالي منهم يرفض الديمقراطية، ويؤيد الحكم العسكري الانقلابي، بينما الأتراك على النقيض من ذلك، والعرب العرباء من الإسلاميين يتمزقون حماساً لأردوغان بينما الإسلامي التركي حريص على الحكم المدني والشرعية والديمقراطية، ويلاحظ الجميع أن الغالبية الساحقة من الشعب التركي يرفعون أعلام بلادهم وليس صورة الرئيس، وهذا هو الفارق بين تفكيرنا وتفكير سوانا من الشعوب، فهناك بون شاسع بين مَنْ يحرصون على بقاء المبدأ وترسيخ القيم، وبين مَنْ يتحمسون لتقديس الأفراد، أو الاستظلال تحت «بساطير العسكر».