لم يفاجئنا رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان وهو يستجلب التاريخ وقصص الأنبياء في وصفه لما حدث في مصر، قائلاً إنه ينتظر ظهور «موسى» ليقضي على «فرعون» وأعوانه، واصفاً وزير الدفاع عبدالفتاح السيسي بالفرعون الجديد، فهذه المصطلحات ليست بغريبة عن أردوغان الذي استخدمها سابقاً في حديثه عن الرئيس السوري بشار الأسد والرئيس المصري السابق حسني مبارك. ولم يفاجئنا أردوغان أيضاً بدعمه الكبير لتنظيم «الإخوان المسلمين» في مصر والشرق الأوسط، فإرهاصات هذا الدعم بدأت مع اشتداد رياح الربيع العربي في المنطقة، وشملت سورية وتونس ومصر – ومن قبلها حماس سابقاً – طمعاً في هيمنة على الشرق الأوسط - أو على الأقل موازنة للدور الإيراني المتمدد – من خلال جماعة «الإخوان» التي أتيحت لها فرصة حكم بلادها. لكن الغريب حقاً أن رجلاً بثقل أردوغان سياسياً وبتجربته قد قرر أن يربط مصيره بمصير «الإخوان المسلمين» في المنطقة – وعلى الأخص في مصر – في شكل لا رجعة عنه، وبدلاً من أن يقدم لهم النصيحة، أو على الأقل أن يقدم لهم تجربته الخاصة كي يستفيدوا منها عندما فضل الانشقاق عن معلمه نجم الدين أربكان قبل حوالى 15 عاماً لأن معلمه فضل العناد والعيش في الماضي وحبس نفسه وحزبه وتجربته بأكملها في دائرة صراع مفرغة مع العلمانيين العسكر، إذ فضل أردوغان ورفاقه حينها السير إلى الأمام وإعادة رص الصفوف وانتظار الفرصة للعودة من جديد إلى الواجهة، وكان هو ورفاقه جاهزين لتحمل المسؤولية، فأردوغان الذي عرف دائماً كيف ينحني أمام العاصفة ومتى، خرج هذه المرة ليحضّ «الإخوان المسلمين» في مصر على العناد والمكابرة والمجازفة، لكنه وأكثر من ذلك – وربما أخطر – ذهب إلى معاداة كل من وقف ضد عنف «الإخوان» وأساليبهم وكل من دعم خيار الشعب المصري الذي خرج في 30 يونيو وقال كلمته. وهذا الموقف – للمفارقة وكما سنستعرض لاحقاً – لا ينبع من الشعور بالانتماء إلى وحدة أيديولوجية دينية إسلامية واحدة، وإنما إلى شعور بات يغلب على تفكير أردوغان في الأشهر الأخيرة، بأن هناك «مؤامرة» دولية خطيرة تستهدفه هو شخصياً، تبدأ ب «حرق» صورة «الإخوان المسلمين» وما يسمى «تجربة الإسلام المعتدل» من خلال الدفع ب «الإخوان» للحكم سريعاً وعدم تقديم ما يخدم بقاءهم في السلطة وفتح الباب لخصومهم لينقضوا عليهم في الوقت المناسب، بهدف اختصار هذه «التجربة» السياسية وإنهائها بأسرع وقت والحكم عليها بالفشل مبكراً، وأن هذه «المؤامرة» التي بدأت في مصر ستنتقل إلى تونس وسورية وستمتد لتصل إلى تركيا أيضاً لتطيح حكومته. لدى أردوغان الكثير من أسبابه الخاصة التي تدفعه إلى التفكير على هذا النحو – سواء كان هذا التفكير صحيحاً أو خاطئاً – والأهم أنه بات حبيس هذه الفكرة لا تغادره ولا تفارقه، حتى أنه يشك في أن كثيرين من المقربين منه بل ومن رفاق الطريق، باتوا يعدّون الأيام لرحيله والتخلص منه، ما يجعله أكثر حدة في تصريحاته وتصرفاته ورد فعله. ولعل أبرز شاهد على هذه الحدة والعصبية تصريحاته التي استهدفت منظمة التعاون الإسلامي وأمينها العام أكمل الدين إحسان أوغلو، التي انتقدها بشدة وطالب أمينها العام بالاستقالة لعدم دعمها تنظيم «الإخوان المسلمين» والدفاع عنه في مصر، وبات واضحاً أن أردوغان يهدف من تصريحاته هذه توجيه سهام غضبه إلى المملكة العربية السعودية والإمارات والكويت (بموازاة حملة إعلامية منظمة على هذه الدول في الصحف القريبة منه)، عندما اتهم من «يمول المنظمة» بتمويل «الانقلاب في مصر»، بالتالي دفع المنظمة إلى اتخاذ مواقف موائمة «للانقلابيين في مصر». والأغرب أن أردوغان ترك الحبل على الغارب لنواب حزبه لكي يتباروا في توجيه الانتقاد - وبجمل خارجة عن آداب الديبلوماسية – للمنظمة وأمينها العام والدول الداعمة لها. فأردوغان الذي قادته سياسته الخارجية في السنتين الأخيرتين إلى عزلة إقليمية قاسية – حتى بات لقب تركيا الدارج في الإعلام التركي المعارض «تركيا رجل المنطقة المعزول» – يدرك أنه ليس بمقدوره أن يوسع دائرة عداواته لتشمل دول الخليج العربي، بعد سورية والعراق ولبنان وإيران والأردن وروسيا، وهو يدرك ما ستؤدي إليه هذه العزلة السياسية من أثار سلبية على الاقتصاد التركي الذي تخطى الأزمة الاقتصادية العالمية بفضل تعامله مع الأسواق العربية والخليجية تحديداً. لكنه، على رغم ذلك، يتجاوز خطوط التعقل والبراغماتية، ويجازف بما تبقى له من علاقات مع الدول العربية، حتى لو أثر ذلك في ملف الأزمة السورية، التي باتت مثار صداع وشبح خوف من المستقبل لحكومته ولتركيا في شكل عام. (الغريب أنه في الوقت الذي تتحول سياسة وزير الخارجية أحمد داود أوغلو من تصفير المشاكل عملياً إلى زيادة المشاكل مع الجوار، فإن حزب المعارضة الرئيسي، حزب الشعب الجمهوري، يمد جسور التواصل مع واشنطن وبغداد ودمشق، وقريباً القاهرة). مصلحة سياسية قبل وحدة الأيديولوجيا الدينية وللقول إن موقف أردوغان من الأزمة في مصر وتنظيم «الإخوان المسلمين» لا ينبع في الأساس من موقف أيديولوجي إسلامي تقليدي أسباب عدة، منها: أولاً: أن أردوغان بنفسه أشار، وفي أكثر من مناسبة، إلى أن ما يحدث في مصر قد يتكرر في تركيا، وهو الذي حاول الربط بين متظاهري حديقة غيزي بارك في اسطنبول مع المتظاهرين ضد الرئيس المصري المعزول محمد مرسي، واعتبر أن من أراد «الانقلاب على مرسي» يحاول أيضاً الانقلاب عليه في تركيا وأن وراء الحركتين قوة واحدة (أشار مرة إلى الغرب ومرة أخرى إلى اللوبي اليهودي العالمي!). ثانياً: قد يكون حلم وزير الخارجية التركي أحمد داود أوغلو أن يرى «الإخوان» يحكمون المنطقة كي يعيد إحياء العلم العثماني من جديد من خلال ولايات «إخوانية» تدين بالولاء للأخ الأكبر التركي، لكن هذا الحلم ليس قائماً على أساس الدين في الإساس، وإنما يستخدم الرابط الديني من أجل تحقيق حلم سياسي ثقافي أكبر، فعودة المارد العثماني قوياً ولاعباً أساسياً في المنطقة هو الحلم وليس عودة الخلافة. في المقابل فإن الحلم نفسه يراود أردوغان ولكن، لأسباب أكثر محلية وشخصية، وهي رغبته الشخصية في البقاء في الحكم والارتقاء به من خلال الوصول إلى كرسي رئاسة الجمهورية، على أن تكون هذه الجمهورية أقوى دول المنطقة اقتصادياً وسياسياً حتى يكون للمنصب معنى. ومع إخفاقاته السياسية في السنتين الأخيرتين وانتشار شبهة الفساد والمحسوبية داخل حزبه وحكومته، بات أردوغان في حاجة إلى «فزاعة» جديدة يجذب بها الناخب بعد أن بطلت «فزاعة» الانقلابيين العسكريين والانفصاليين الأكراد، وليس هناك أفضل من رابط الدين «والتلاحم مع إخوة الدين والمستضعفين ضد الانقلابيين والجبارين في المنطقة»، فحمل معه حملته الانتخابية إلى الخارج، وبعد أن فرغ من انقلابيي تركيا اتجه ليرفع رايته في وجه «انقلابيي» المنطقة و «حماة الديكتاتورية»، وهو رهان خطير سياسياً، وقد تبدت إرهاصاته في حديثه وتصريحاته خلال أزمة تظاهرات واحتجاجات حديقة غيزي، عندما لخص الأمر برمته في «نحن» و «هم»، «نحن» المسلمون المحافظون المتدينون المؤمنون بالديموقراطية وصناديق الاقتراع، و «هم» الانقلابيون والمتعاونون مع الخارج وأعداء الدين. والملف المصري يشكل لأردوغان أرضاً خصبة لدى الناخب التركي الذي يرفض «الانقلابات» والتدخلات العسكرية في كل أشكالها وألوانها من خلال تجربة خاصة بتركيا، فحتى أعتى معارضي أردوغان في تركيا، لم يستطع أن يصف ما حدث في مصر في 3 تموز (يوليو) سوى بالانقلاب العسكري وأن يعلن رفضه له «من حيث المبدأ» وإن تابعت المعارضة سياساتها الرافضة تصرفات «الإخوان المسلمين» ونهجهم السياسي. وعلى أعتاب انتخابات بلدية ورئاسية العام المقبل فإن الملفين المصري والسوري يشكلان كنزاً سياسياً لأردوغان ليعيد رص صفوف ناخبيه وهو يعلم أن الليبراليين – الذين دعموه سابقاً ضد الجيش والانقلابيين - قد انفضوا عنه بسبب سياساته التسلطية أخيراً، ويركز الآن على حصد أصوات القوميين والإسلاميين، خصوصاً أولئك الذين تركهم أستاذه نجم الدين أربكان تركة سياسية بلا وريث. ثالثاً: المتابع والمراجع في شكل سريع للدور التركي في المنطقة منذ الحرب الباردة يدرك أن دورها الذي قامت به خارجياً مهد الطريق لحكمها داخلياً، فبعد أن حكمها العسكر – عن بعد – خلال فترة الحرب الباردة، عاشت السياسة الداخلية في تسعينات القرن الماضي حالة من التخبط مع بحث تركيا عن دور جديد لها خارجياً بعد انتهاء مهمتها كحارس شرقي للناتو بانتهاء الحرب الباردة عام 1990، فتناوب على حكمها لوبيات رجال الأعمال في محاولة بناء دور لها في وسط آسيا والقوقاز بعد انهيار الاتحاد السوفايتي، وبعد فشل تلك المحاولة – لأسباب يطول شرحها – سمح لأربكان الإسلامي بالمجيء إلى الحكم في وقت كانت عملية السلام مع إسرائيل في الشرق الأوسط هي الشغل الشاغل للمنطقة، وكان الدور المطروح على تركيا حينها، دور التحالف الاستراتيجي مع إسرائيل والأردن لحماية نظام إقليمي جديد لم يكتب له النجاح. ومع اكتشاف الرئيس الأميركي بيل كلينتون الأهمية الجيوستراتيجية لتركيا كجسر بين الشرق والغرب ودفعه بها إلى عضوية الاتحاد الأوروبي عام 1999، بات الطريق ممهداً لوصول حزب العدالة والتنمية إلى الحكم من أجل تجربة نموذج الإسلام المعتدل بعد تفجر مشكلة الإرهاب العالمي على يد تنظيم القاعدة (وللأمانة، فإن حزب العدالة والتنمية في صورته الأولى أغرى واشنطن لتجربة هذا النموذج والخروج بعد ذلك بخطة الشرق الأوسط الكبير، ولم تكن لواشنطن أو الغرب يد في انطلاق حزب العدالة والتنمية وتحول القائمين عليه من فكر الجماعة إلى فكر الحزب، فالحزب تجربة تركية خالصة يعود الفضل في ظهورها إلى قياداتها بالدرجة الأولى). ومع استفحال مشكلة الإرهاب والإقرار باستحالة التصدي له بالوسائل الأمنية والعسكرية، بدا أن نموذج العدالة والتنمية في الإسلام الوسطي ستكون له أهمية بالغة في المنطقة ودور إقليمي من أجل احتواء التنظيمات المتطرفة والمتشددة، وهنا كان الربيع العربي فرصة لاختبار حقيقي لهذه النظرية، فكان أن فشل أردوغان وحزبه في دفع تنظيم «الإخوان» في المنطقة إلى الاعتدال والتعقل، بل كان السعي الأردوغاني، على العكس من ذلك، متسرعاً في نصح «الإخوان» للسيطرة بأسرع ما يمكن على مفاصل الحكم وأجهزة الدولة، من أجل تثبيت حكمهم ضد أي محاولة انقلابية ضدهم – كما حصل مع أردوغان نفسه عندما واجه محاولة انقلابية فاشلة عام 2007، سعى بعدها للسيطرة على كل أجهزة الدولة لمنع تكرارها – وذلك بدلاً من أن يركز على نصح «الإخوان» بالسير في طريق الديموقراطية والتركيز على الاقتصاد ونموه والاستقرار والانفتاح على الآخر والمشاركة في العمل السياسي. وانطلاقاً من هذه الفرضية (إن الدور الإقليمي يحدد لتركيا زعيمها السياسي داخلياً) فإن أردوغان يبدو مقتنعاً بأن انتهاء تجربة «الإسلام المعتدل» على يد «الإخوان» في المنطقة، سينهي الدور الإقليمي لتركيا، ما قد يستدعي تغيير قياداتها داخلياً، وهو ما يجعله يتمسك أكثر فأكثر ب «الإخوان» إلى درجة ربط مصيره بهم في المنطقة. ولعل هذا ما جعله يعاند ويرفض نصيحة ديبلوماسيي الخارجية والقصر الجمهوري بضرورة الإبقاء على شعرة معاوية مع الحكم الجديد في مصر، وإن خالفه الرئيس عبدالله غل فبادر بإرسال برقية تهنئة بعيد الثورة للرئيس الموقت عدلي منصور، كبادرة حسن نية، وهو ما دفع أردوغان إلى تحريك جيشه الإعلامي الجبار في تركيا لفرض رواية تنظيم «الإخوان» كرواية رسمية وحيدة للإعلام التركي، من خلال أخبار وكالة الأناضول الرسمية التي تنقل الصورة في مصر كما يراها «الإخوان» فقط، حتى بات من الصعب، إن لم يكن من المستحيل، على المواطن التركي أن يفهم أو أن يرى صورة مغايرة للأحداث في مصر وغالبية الإعلام التركي الخاص والحكومي تعزف على وتر واحد لا يخلو أحياناً من الاستفزاز والتحريض.