عندما تكون في دولة من دول العالم الثالث، فأينما تولي وجهك فسوف تجد ألواناً وأشكالاً عجيبة من التخلف، في كل المجالات الإنسانية وعلى كافة المستويات الإدارية. لدرجة أنك تكاد لا تستثني مجالاً مهما كانت أهميته، ولا مستوى مهما علا شأنه ونخبويته من أمراض التخلف الخطيرة. لهذا فإني أقول دائماً إنه لولا توفر شروط ومواصفات التخلف لدينا لما وصمنا الآخرون بأننا متخلفون. وعند الحديث عن اهتراء معظم مشروعات التنمية في المملكة، فإنه يسكنني منذ زمن سؤال دائم هو لماذا نحن متخلفون في الوقت الذي بإمكاننا أن نكون فيه متقدمين؟ فكل شيء مثالي للتقدم ولتحقيق معدلات عالية في التنمية متوفر عندنا. فعدد سكاننا قليل والأموال غزيرة والعقول المميزة للتخطيط والتنفيذ موجودة، بل وحتى يمكن توفيرها من الخارج إن كانت نادرة. إن التخلف وتأخر التنمية ككارثة وطنية لا بد أن يكون لها أسباب وعوامل متعددة وبنفس مستوى حجمها الكارثي، وأبرز هذه الأسباب من وجهة نظري، هو الافتقار للعدد الكافي من القيادات المثقفة في المستويات العليا والمتوسطة في مؤسساتنا الحكومية. إذ تبدأ عجلة التخلف في تلك الوزارات. والطيور على أشكالها تقع، عندما يأتي مسؤول غير مثقف ليقوم بتقريب من يراهم مناسبين ليكونوا رجالاته ومساعديه دون أي أسس أو معايير محايدة أو موضوعية سوى الارتياح الشخصي والهوى النفسي. بيد أن السؤال الذي يطرح نفسه هو: ماذا نقصد بالمثقف هنا، هل نحن مثلاً في حاجة لكتاب روايات وشعراء لإدارة مؤسساتنا الحكومية؟ طبعاً الجواب بالتأكيد لا، ولكن المثقف الذي أعول عليه هنا، هو المعد إعداداً علمياً جيداً، وصاحب رؤية إدارية متزنة، ومراعٍ لمبادئ العدالة بالتيسير على الناس وتطبيق العادل من القانون على الجميع بالمساواة، إضافة إلى ضرورة امتلاكه للحس التخطيطي السليم من أجل مجابهة المشكلات المختلفة الطارئ منها والمزمن. إن الأدوار التي تضطلع بها تلك القيادات المتوسطة والعليا في وزاراتنا ودوائرنا الحكومية في الوقت الحالي ليست هي أدوار تنفيذية بحتة كما يظن البعض، بل يقومون بأدوار أكثر أهمية كالمشاركة في اقتراح مشروعات القوانين وصياغتها، وتفسيرها ومراقبة تطبيقها. بمعنى آخر أن أيديهم مطلقة للقيام بكل الأدوار حتى التي تتعلق بمصائر الناس ومستقبلهم. من جهة أخرى، ورغم أنه على قدر عظم المسؤولية يجب أن يتم اختيار المسؤول لإبراء الذمة، إلا أن هذا التصور سيتبخر عندما تقابل بعض الأشخاص على قدر كبير من السطحية والضحالة وأحياناً قلة الأمانة والأدب، تجعلك تتساءل وأنت فاغر فاك على مصراعيه بأكبر من مغارة علي بابا، كيف وصل هؤلاء الأشخاص إلى هذه المناصب الحساسة؟! هل لا يوجد لدينا من هو أكثر أمانة وعلماً ليكون مكانه؟! فمثلاً هل من المعقول أن يعين شخص في منصبٍ رفيعٍ وكل مؤهلاته، أنه أحسن من يعمل «رأس الشيشة» للمسؤول الكبير في وزارته، أو أنه بارع فقط في تنظيم حفلات الطرب ودق العود والسمر! إن وصول هؤلاء الأشخاص من محدودي القدرات لم يكن انتخاباً أو اختياراً طبيعياً، فلو أجريت لبعضهم اختبارات محايدة وموضوعية لجعله في المكان المناسب في المجتمع؛ فإنك لن تجد أي منصب مناسب لهم سوى مسح الأحذية أو تعبئة السيارات بالوقود، لا قيادة إدارة عامة تمس مصالح الناس في الصميم، مع احترامي الشديد لأصحاب هاتين المهنتين. إن كانت هفواتنا الإدارية وأخطاؤنا الإدارية وقراراتنا الغامضة في كثير من المشروعات والقطاعات ليس مردها نقص الأموال أو الإمكانيات، وإنما مردها غياب العامل الإنساني الفعال إذن يحق لنا أن نسأل هل هذا الغباء الإداري هو فطرة خاصة بنا لا مفر منها ولا مناص؟ أم أنه أمر مصطنع سببه استفراد البعض ببعض المناصب لتمكين ظاهرة «التزلم» في الاستمرار والمواصلة؟ وحتى تكتمل ملحمة قصة تغييب العقول المثقفة في بعض مؤسساتنا الحكومية، فإنه إن وجد بعض المؤهلين ممن يمكن ا لاعتماد عليهم لتحقيق قفزات نوعية في الرفع من مستوى أداء الجهاز الحكومي، فإنك سوف تجدهم مهمشين ليس لأنهم لا يعرفون عمل رأس الشيشة، ولكن لأنهم ببساطة لم يدخلوا مزاج بعض المسؤولين، وبترجيح أكبر فإن السبب الحقيقي وراء إبعادهم هو أن المسؤولين لا يخافونهم فقط بل يحسدونهم. خصوصاً عندما ترى أن الفرق الزمني بينهم يعطي انطباعا أنه على المسؤول في منصب قيادي ألا يحسد شخصا يحتاج لأكثر من خمسة عشر عاماً على الأقل ليكون مستحقا قانونياً أن يكون في ذلك المنصب. إلا أنه يبدو أن من الصعب أن تجد أي ذكاء في عالمنا العربي يمر بدون عقوبة. فيما مضى حاولت أن أبين كيف يغيب المثقفون ومن لديهم بذرة إبداع وذكاء في بعض مؤسساتنا الحكومية، لكن أحياناً تكون المبادرة من هؤلاء المثقفين بأن يختاروا طوعاً التسرب من جهاتهم الحكومية. والسبب الرئيس في ذلك هو شح الرواتب مقارنة بالقطاع الخاص، لذلك تكون هي وجهتهم المثالية. إن كان عنترة بن شداد لم يقدره قومه في السلم فقط ودعوه ب «ابن زبيبة» ولكن في شداد الحرب: «يا ابن الأطايب»، فإن المثقفين في بعض دوائرنا الحكومية هم «ابن زبيبة» في وقت السلم أو في الشدائد، فهم بالنسبة لمسؤوليهم لا يطربون مهما زمروا. أتصور أنه لولا ظروف بعض السعوديين بأنهم يفضلون البقاء في دولتهم من أجل العيش بين أهلهم وربعهم لوجدناهم ينافسون باقي إخوتهم من العرب والمسلمين في الحصول على جنسية دول أخرى تقدر مكانتهم وتعطيهم ما يريدون من إشباع مادي ومعنوي.