عندما طالبت مجموعة من أفراد المجتمع بتغيير المناهج الدراسية، وحذف بعضها، ومراجعة كثير منها بحجة أنها سبب للتطرف الفكري، والإرهابي، الذي ولَّد فيما بعد «القاعدة»، و»داعش»، كانت موجة الرد قاسية من قِبل المجتمع، ووزارة التعليم، التي بيَّنت أن هذه المناهج تم كتابتها، ومراجعتها من قِبل أساتذة، ومختصين في هذه العلوم، وأن من أسباب هذا الفكر الانفتاح الإعلامي العالمي على مختلف وسائل الإعلام، وقنوات التواصل المشبوهة، وغير المعلنة. ومع انتشار جرائم الفكر الداعشي، الذي مسَّ الأمن الداخلي بشكل متكرر، تم إعادة فتح هذا الملف، ولكن من زاوية أخرى، فقبل أيام نظَّمت دارة الملك عبدالعزيز في فرعها بمكة الندوة العلمية الكبرى «المصادر التاريخية لمكةالمكرمة عبر العصور؛ رصداً ودراسة وتحليلاً»، بمشاركة 42 باحثاً وباحثة من داخل المملكة العربية السعودية وخارجها بهدف تقديم مسار جديد لخدمة مصادر تاريخ مكةالمكرمة، وتقديم أفكار جديدة، والبحث عن المصادر في أي مكان من الأمة الإسلامية للوصول إلى معلومات جديدة، تفتح للمؤرخين الأبواب والأفكار الكثيرة. إلا أن هذه المناسبة استُغلت من بعض الأقلام لنقد كتب التاريخ بما لا صلة له بالندوة ولا بموضوعها لا لشيء فقط لمجرد إقحام ما لا يسع إقحامه في قضية الإرهاب الداعشي ما يعد من الترف الكتابي لهؤلاء الكتاب ولا نفع ولا طائل من ورائه، فاتهموا كتب التاريخ بالتحريض لما في بطونها من أحداث، ووقائع، وأنها سبب رئيس لما نراه اليوم من قتل، وسفك، وإرهاب. وقد غاب عن أذهانهم أن التاريخ ليس مصدراً تشريعياً بقدر ما هو تدوين لجملة الأحداث والوقائع التي حصلت، وسطرها إما معاصروها، أو مَنْ تناقلوها بأسانيدها ما يعني أنها قد تعج بالغث والسمين، إضافة إلى أن الأمانة العلمية للتاريخ تحتِّم على المؤرخ أن يسطر ما له وما عليه، لذا فقد نهج غالبيتهم منهج الإسناد، ومَنْ أسند فقد أحال، بمعنى مَنْ أراد أن يتحقق من صحة، أو ضعف الرواية التاريخية فعليه دراسة السند، كما صنع ابن جرير الطبري، رحمه الله تعالى، في كتابه تاريخ الأمم والملوك، الذي قال في مقدمته: «فما يكن في كتابي هذا من خبر ذكرناه عن بعض الماضين مما يستنكره قارئه، أو يستشنعه سامعه، من أجل أنه لم يعرف له وجهاً في الصحة، ولا معنى في الحقيقة، فليعلم أنه لم يؤت في ذلك من قبلنا، وإنما أتي من قِبل بعض ناقليه إلينا، وإنا إنما أدينا ذلك على نحو ما أدي إلينا». أي أن الكتاب لا يخلو من الغث والسمين، ولكن العهدة على القارئ. لذا وجد مَنْ أتى بعد ابن جرير، فعمل على دراسة أجزاء من الكتاب، وتقريظه، وتصحيحه، والتعليق عليه، لا طمسه، أو نفيه، أو إعادة صياغته، أو اتهامه. ولأن أي كتاب، عدا كتاب الله عز وجل، عرضة للخطأ، كان لابد من وجود مثل هذه الدراسات لكتب التراث الإسلامي، ومنها التاريخ. إن مَنْ يوجه أصابع الاتهام إلى هذه الكتب، بالعموم، ينسب بشكل أو بآخر الإرهاب إلى أصحابها، وعلى مَنْ يرى أن مثل هذه الكتب ذريعة لهذا الفكر، أن ينتقد كتب الفيزياء، والكيمياء، والميكانيكا، فهي منابع صناعة المتفجرات، والقنابل، وأسلحة الدمار الشامل وغيرها، وأن يُصنِّف مكتشف الديناميت، الذي أنشأ 90 مصنعاً للأسلحة «ألبرت نوبل» على أنه راعي الإرهاب الأول، رغم أنه صاحب جائزة نوبل للسلام، وهذا ما لا يقوله عاقل فضلاً عن مثقف ومطلع.