جأر كثيرون بالشكوى مؤخرا من ضعف إعلامنا الخارجي وتعاطيه مع المرحلة الراهنة وأبعادها الخطيرة على الوطن. يرى بعضنا هذا الضعف مهنيا وهو كذلك في جزء منه لكن الصحيح أيضا أن الخلل الأساس في هذه المنظومة وفي سياقها الحالي هو ثقافي بحت. علينا الاعتراف وإعلان أننا نعاني من صراع داخلي في المشهد الثقافي يدور حول (شكل) الوطن والشكل هنا إحدى صور الهوية ومظهر بارز منها. وعندما نقول صراعا فإننا ننفي عنه سمة الحوار تلك الخرافة التي يبدو أننا صدقناها حين حاولنا مأسستها وكان الفشل مع الأسف سيد الموقف. وهذا الصراع شأن داخلي لكنه يمارس الاستمداد من الظروف الخارجية المواتية أحيانا والمفارقة أحيانا أخرى. لا شك أن وطننا السعودية يمثل حالة فريدة ومختلفة عند تأمل التكوين والممارسة وتوقع المستقبل ويمثل العمق الديني بالمفهوم الإسلامي لا المفهوم الغربي حالة عميقة حاضرة في الوجدان. يبرز الصراع عند اختطاف الجملة الأخيرة من قبل فريقين، فريق يرى في ذلك ردة حضارية وتخلفا عن الركب، وفريق يرى في التطوير والتغيير والمواكبة أزمة مربكة تقود للتخلي عن المنطلقات. ولأن العامل السياسي يكاد يكون هو المؤثر الأبرز في المشهد المحلي – وللسياسة حسابات خاصة – فإن المثقف مهما كان توجهه يمارس نوعا من العبث في مساحة على السطح تفتقد العمق والمبادرة. هناك وقوع في أسر (إكراهات الواقع) تجعل المسألة الثقافية ورقة قابلة للعب بها والصراع عليها من قبل المثقف نفسه. الخوف سمة بارزة عند المثقف وهو ليس خوفا من بطش أو استبداد بل هو خوف من نوع آخر، خوف من المختلف وخوف على المشروع الخاص المعلن للمثقف. المشكلة في هذا الخوف أنه لا يبقى رهين النفس وخلجاتها بل يتحول إلى حركة في المجال الثقافي يمكن تسميتها (المشروع الوجل) ومن أبرز علاماته التحريض الاجتماعي والسياسي ضد المختلف. هذا الارتباك الجلي جدا يغذي بلا شك فكرة الصراع الثقافي. هناك قضايا يمارس فيها المثقف الخيانة عبر (تعويم) تلك القضايا وتغييب المفاهيم المركزية التي تمد الواقع بحلول مشكلاته. هذا التعويم الذي يعد كمناورة لكسب وقت أو ترتيب اصطفاف ما ليس إلا حدثا نفسيا مخاتلا يتعاطى معه البعض – ضلالا – على أنه حدث ثقافي. من أخطر نتائج هذا الأداء الثقافي أنه يعتزل العمق المجتمعي لذا تجد المجال الشعبي والقبلي وما في حكمهما ينمو ويترعرع ويزدهر ويكسب أنصارا جددا بل ويتجذر في العقل الجمعي لتعود معه الخطايا الفكرية والسلوكية والاجتماعية سيرتها الأولى وكأن صوتا لم يدوى وداعية لم يعظ وكاتبا لم تسود ورقاته. نتساءل سوية في محاولة لفهم هذا الارتباك والتناقض حين يواجه المثقف قضايا داخلية وخارجية تمس الوطن وتتكئ على بعد ثقافي وعمق فكري منطلق من الهوية المعلنة والنسق الظاهر.. يحفل الإسلام بثقافة تنزع للسلم وخلق مساحة من الهدوء تمكن الفرد من اتخاذ خياراته فلماذا هذه النزعة للصراع واستحضار النموذج الغربي في بعده العنفي ولو في اللاشعور؟ كيف يحصل الانسجام بين هوية الوطن المعلنة سياسيا وبين الممارسات الثقافية المخالفة/ المختلفة وهل ما يحصل هو في نطاق التنوع أم التضاد؟ هل مصدر هذا الصدام إخفاق في المرونة والتجديد من علماء الشريعة أم هو تمرد المثقف وعصيان الناشط؟ ما هي المفاهيم المركزية -ثقافة وهوية- للسعودية كدولة وطنية معاصرة التي يمكن أن تعمل في جميع الظروف دون الحاجة للخجل من بعضها في حدث ما واستدعاءها -ذاتها- في حدث آخر؟ كيف يمكن فهم انتصار المثقف للقضاء عندما يتعلق الأمر بالإرهاب والهجوم عليه عندما يتعلق بأمر آخر يتقاطع مع مفاهيم غربية؟ لماذا العراك حول الهيئة والمرأة يتخذ الصورة الشكلية الخارجية وتجنب الإشكال المختبئ خلف ظواهر الأمور؟ كيف سيجيب المثقف السعودي على أسئلة المثقف والصحفي الغربي حين يقارب قضايانا من زاويته؟ كيف نحسم مفهوم حرية الفرد المتسعة مقابل الحرية الجمعية الأضيق وفق مفاهيم التربية الإسلامية؟ متى نثق بأنفسنا ومشاريعنا وتزول من تفكيرنا عقدة الاختطاف؟