المثقفون السعوديون المهمومون بنهضة وتطور مجتمعهم، يطلون في اليوم الوطني ليناقشوا قضية الانفتاح الثقافي والحوار مع الآخر، انطلاقاً من شعور المثقف الوطني بالمسؤولية اتجاه وطنه.. من هنا نبدأ نقاش قضية "الحوار مع الآخر" مع الدكتور سعد البازعي، ومحمد محفوظ، والدكتورة أميرة كشغري، ومحمد العباس، وسنتطرق من خلال النقاش للجانب الإنساني والثقافي المحض، والذي يفتتحه الكاتب محمد محفوظ معلناً: أننا اليوم بحاجة على صعيد الحوار أن ننتقل سياق الحوارات الثقافية. وقال محفوظ: من الحوارات الثقافية تجربة "الحوار الوطني" الذي دشنه خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبد العزيز، وهو مشروعٌ يحتاج إلى استمرار العمل من أجله يوما بيوم وسنة بسنة، لما فيه من المصلحة العليا للمجتمع الواحد بكل مكوناته الثقافية والاجتماعية والفكرية، من هنا نجد أن المناقشة الثقافية لقضية "الانفتاح الثقافي والحوار مع الآخر" تصب في الصالح العام أولا، وتتعالى على بعض المجالس"التقليدية" التي أثبت سوء نية، بعد أن ابتلعت المفاهيم الحديثة ك"الحوار" و"الآخر" وجيرتها لمصالحها الأيديولوجية دون الاكتراث بالمشروع الوطني الأم لخادم الحرمين الشريفين. حوارات ثقافية يرى محفوظ أن من أجل إزالة رواسب التاريخ وتجاوز حقب الإلغاء والإقصاء المتبادلين، إننا بحاجة على صعيد الحوار، الانتقال من سياق الحوارات الأيديولوجية التي لا تضيف إلا تأكيد كل طرف على أن مضامينه الدينية والفلسفية والروحية، تتسع وتحترم الآخر المختلف في العقيدة والدين، بينما الحاجة ماسة اليوم إلى الحوارات الثقافية، التي تعمل في اتجاهين في وقت واحد، الاتجاه الأول حسب صاحب كتاب "الإسلام والغرب"، هو في تنقية الفضاء الثقافي والاجتماعي والسياسي من كل رواسب الحروب وعمليات الإقصاء، وهذا لا يتأتى إلا بحوارات ثقافية عميقة وصريحة، بحيث أن كل طرف يمارس نقدا صريحا وعميقا لبنيته الثقافية على هذا الصعيد، وإنه آن الأوان لردم الفجوة على الصعيد الفكري والثقافي، بالمزيد من الحوارات التي تستهدف صياغة الوعي الجديد في طبيعة العلاقة مع ظاهرة التعددية الدينية والمذهبية والقومية. مهمة الحوار لذلك فإن المهمة الأساس في مشروع الحوار الوطني كما يراها محفوظ، ليست في الدخول في نفق السجالات الأيديولوجية، وإنما العمل على إظهار كل القيم الإنسانية والحضارية التي تختزنها الثقافات الوطنية، وإعمال العقل وإطلاق حرية التفكير من أجل بناء نظام علاقات بين مختلف المجموعات الوطنية على قاعدة العدل والحرية وحقوق الإنسان. فالانتماء المتعدد ليس مدعاة للانتقاص من حقوق الإنسان، أو فرصة للتقليل من حقائق ومتطلبات العدل والحرية، فالحقوق مصانة للجميع، والفرص متاحة للجميع، بصرف النظر عن الدين أو العرق أو القومية، مؤكدا على أن الحوارات الثقافية هي القادرة على صياغة راهن العلاقة بين كل الثقافات على أسس العدالة والاحترام المتبادل. الآخر.. تاريخيا تقدم الدكتور أميرة كشغري نبذة تاريخية عن مفهوم "الآخر"، مؤكدة أن هذا المفهوم "أصبح مفهوما مستهلكاً دون أن نعي بعمق حقيقة ما هو هذا المفهوم؛ فأصبحنا نستخدمه بطريقة مفرغة"، فمن هو "الآخر"؟ أجابت الكاتبة والأستاذة الجامعية بالقول: لمصطلح الآخر تاريخ فلسفي ضارب في القدم، فهو يعود إلى كتاب "الفيلسوف" لأفلاطون، كما أن الكثير من الفلاسفة مثل هيجل وهيدجير وسارتر قد افتتنوا بالبحث في ماهية هذا المفهوم، ومازال هذا الافتتان متواصلاً كما نرى في أعمال المعاصرين من المفكرين والمنظرين لمفهوم "الأخر" و"الأخروية"، من أمثال ادوارد سعيد وجاك لاكان. ف"الأخروية" أو ما يشار إليه بكلمة "otherness" لا تتعلق فقط بموضوع الاختلاف الثقافي لأنها تشمل كما يقول لاكان "القوى التي تشكل اللاوعي، على المستويين البدائي والثانوي، وتعرف بطرق عديدة وليس لها شكل مستقر". د. سعد البازعي الآخر..نحن ومن وجهة نظر الدكتورة كشغري فإن "الآخر" هو نحن، من خلال وعينا بذاتنا في مراحل متباينة؛ بمعنى أننا في حوار دائم مع أنفسنا في مراحل حياتنا، و ولكي نتمكن من الحوار مع هذا "الآخر" لا بد أن نبدأ من الحوار مع ذاتنا أولاً قبل كل شيء، فالحوار يعني الإنصات والتأمل مع النفس وتقبل ما لا يتفق مع تصوراتنا الذهنية الآنية أياً كانت هذه التصورات، وهذا يعني تقبل التغيير حتى في داخل أنفسنا، إن من السهل فتح النقاش في موضوع الحوار مع "الآخر" المختلف، ومن الأسهل الادعاء بأننا مع مبدأ الحوار، لكن المحك والاختبار الحقيقي هو أن يعكس سلوكنا هذا المفهوم، ويكون متوافقاً معه ومتماشياً مع متطلباته في التعامل الإنساني السلمي، فيصبح انفتاحنا على التطور انفتاحاً عميقاً وداخلياً يؤهلنا للحوار مع الآخر الخارجي. بلا أحكام مسبقة واسترسلت كشغري قائلة: ولأن الثقافات المختلفة تسكن ذات الكوكب جنباً إلى جنب، يصبح التعرف على الثقافات المختلفة والنظر إليها بدون حكم مسبق أمراً لازما، في ظل التفاعل المستمر فيما بين المجتمعات، وهنا تبرز أهمية الدراسات الثقافية المقارنة والنظرة الموضوعية للتاريخ وثقافة سيادة القانون والمجتمع المدني، حيث تصبح كلها منطلقات لازمة للحوار الحقيقي الذي لا يسعى إلى تخطئة الآخر أو النيل منه أو تسفيهه، بل إلى فهمه وتقديره تمهيداً للتفاعل الإيجابي معه. قتل المصطلحات من أجل تجذير مفهوم الآخر، يعتقد عضو مجلس الشورى ورئيس النادي الأدبي في الرياض الدكتور سعد البازعي أن المفاهيم والمصطلحات أوعية معرفية تفرغ وتمتلئ، وقد يطيب مذاقها ويكون غنياً بالفائدة أو يفسد ويصبح آسناً، وليس بالإمكان بناء معرفة أو ثقافة بدون تلك المصطلحات والمفاهيم، فهي لغة داخل اللغة، لغة يصطنعها المختصون والمفكرون والباحثون، كلٌ في مجاله لتداول المعرفة وتطويرها ليصير من ثم إغناء الثقافة ككل، موضحا: مما لا شك فيه أن المصطلحات وما تحمله، بقدر ما يكثر تداولها، تزداد احتمالات افتقارها إلى ما هيئت له أصلاً، فتصدأ أو تفقد حمولتها المعرفية أو الدلالية الأساسية، أو تتشوه ويعلوها صدأ سوء الفهم، أو كثرة الاجتهادات الخاطئة وتغبرّ شحنتها الأولى، تماماً كما يحدث للمجازات في اللغة الأدبية الشعرية بوجه خاص حين تغدو بلا معنى أو بلا طعم. ويرى الدكتور البازعي أن مصطلح "الآخر" معرض لهذا المصير، مثله مثل غيره، بل لعل الصدأ أخذ فعلاً في التأثير عليه حتى بدأ يبهت، متسائلا: لكن ما هو المصطلح الذي يقف بمنأى عن مثل هذا المصير؟، أليس الشيء نفسه يصدق على مصطلحات كثيرة أخرى: الهوية، الذات، الثقافة، اللاوعي، الإبداع، إلى غير ذلك، مما يعد من أساسيات التعبير الثقافي؟، أظن أن من المصطلحات ما هو في وضع أسوأ بكثير من مصطلح الآخر، لكن مهما يكن الأمر، فالمصطلحات بقدر ما تبهت فإنها قابلة لاستعادة عافيتها وقدرتها على نقل المعرفة، ويكون ذلك بالطبع من خلال التوظيف المميز بالجدية والابتكار، وكذلك بالإثراء المستمر بالدلالات وظلال الدلالات. تقاليد الحوار وحول تقاليد الحوار بين الثقافات والمكونات الاجتماعية، تشير الدكتورة كشغري إلى أن خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز اختار إستراتيجية الحوار لتكون الرسالة الفكرية التي يلتقي عندها المجتمع السعودي بكل أطيافه وفئاته، فالحوار بكل تأكيد هو الطريق الأمثل، وإن لم يكن الأسهل أو الأقصر، لمناقشة القضايا ولمعالجة الإشكاليات التي يواجهها المجتمع، كما أنه السبيل الأمثل للإقناع أو حتى لمجرد تبادل وجهات النظر، ويظل الهدف الأبعد من وراء هذا كله هو الوحدة الوطنية لوطن يشعر فيه كل مواطن أنه جزء منه، يسهم في بنائه، يدافع عن مستقبله وعن مقدراته، وينعم بكامل خيراته. محمد العباس ما بعد حوار الأديان وتشدد الدكتورة كشغري على أننا أمام مسؤولية كبرى وضعنا فيها خادم الحرمين الشريفين بإعلانه وتبنيه لمبادرة الحوار بين الأديان والثقافات وإعلان مدريد بما ورد فيه من مبادئ و توصيات، ولا بد لنا كمواطنين سعوديين - بل ومسلمين جميعاً - أن نستشعر هذه المسؤولية الكبيرة، بأن نثبت للعالم لا بالقول فقط ولكن بالعمل والسلوك، أننا فعلاً أناس يتجذر فيهم احترام الأديان المختلفة والثقافات المتعددة، وأننا نمارس التسامح مع المختلفين عنا ديناً أو مذهباً أو ثقافة أو عرقاً، وفي هذا العصر المعلوماتي المفتوح، ويؤثر كل سلوك فردي أو موقف جماعي أو تصريح "إنترنتي"، خصوصاً ممن يشكلون ثقلاً اجتماعياً أو فكرياً في مجتمعنا بشكل تلقائي على مصداقية المملكة ككل. هذا بطبيعة الحال لا ينفي - بل ولا يمنع - أن يكون هناك أفراد أو جماعات متطرفة أو منغلقة في كل المجتمعات، ولكن المهم والمطلوب أن يكون النسق العام والنسيج القانوني متساوقاً ومبادئ هذا التسامح. أنا.. قبل الآخر الناقد محمد العباس يدخل النقاش مؤكدا على أن لا يمكن الذهاب لمحاورة "الآخر" قبل تعريف ال"أنا" و ال"نحن"، فالملاحظ أن التحاور معه يتم بشكل اعتباطي وعشوائي ومن خلال وعي شعبي بممكناته، تؤديه ذوات قاصرة أو طائشة وأحياناً مبهورة به، ولتجديد مفهوم "الآخرية"، يفترض العباس تفعيل ثقافة المشروع، بمعنى ترجمة أكبر قدر ممكن من منتجات الآخر، والتماس معه في لحظة الديمقراطية التي يعيش امتيازاتها، الأمر الذي يتطلب من الوجهة الثقافية الإقرار له بالمديونية في جوانب هامة وعريضة من المنتج الحضاري. الإقرار بالآخر.. أولا وحول تقاليد الحوار التي يجب أن ترسخ بين المكونات الثقافية والفكرية في المجتمع الوطني الواحد، يقول العباس مصارحا: أعتقد أن أول ما يفترض أن يتسم به ميثاق التحاور هو الإقرار بوجود الآخر بكل أطيافه، وإشاعة ثقافة التعدّد والتنوّع، بل تشجيع حالات التشظي المؤدية بالضرورة إلى الاختلاف تحت مظلة وطنية جامعة، ولكن ليس بالمعنى الشمولي، أو حشد كافة الفئات والشرائح والاتجاهات في قفص الواحدي، فالحوار أصلاً لا ينهض إلا على ما يعرف في الانسانيات بمفهوم "الاستغيار" ووجود آخر، مضاد بالضرورة، وهذا ما يفترضه التعريف الأحدث للثقافة من حيث إقرارها بالتنوع العرقي والقومي والفئوي، بل تحريضها على اكتشاف ممكنات المجتمعات والأقليات ومفاعلة كل ذلك في بوتقة اجتماعية صاهرة. طرق الانفتاح وحول سبل الانفتاح على الآخر يرى صاحب "حداثة مؤجلة" أن الانفتاح على الآخر، لم ولن يكون في يوم من الأيام مجرد ترف فكري، بل هو ضرورة حضارية، ولا يوجد مشروع حضاري في التاريخ لم يتعلم من "الآخرين"، غالباً ما يكون التعرّف على الآخر والتماس به وصفة علاجية من أمراض التخلف والجهل، فالحضارات والثقافات تقوم على الترافد وليس على التجاهل أو التصادم الأعمى، مهما قيل عن نظريات التصادم والمجابهة التي يسميها ادوارد سعيد "صدام الجهالات". وقال العباس: الآخر لا يعني الغرب فقط، بل هناك آخر شرقي ما زلنا نجهله كمعطى مادي ولا مادي، ويفترض أن نتعامل مع تلك الدوائر من منطلق الاسترفاد والتضايف، لا الفرجة والاستهجان والاستغراب والخوف من الدخول في جدلية "التأثير والتأثر"، وأظن أن برنامج البعثات - مثلا - يمكن أن يشكل مدخلاً هاماً في هذا الصدد بعد إعادة مراجعته، وتكريس جانب منه لتوطين التكنولوجيا واستدخال النظريات الجمالية في المناهج التربوية، وكذلك إعادة هيكلة النظم الإدارية وفق أحدث الأساليب، بمعنى التحاور مع "الآخر" على المستوى المؤسساتي. استحالة الانغلاق ويرى الدكتور البازعي أن مصطلح الانفتاح الثقافي يعني القبول بما يحدث والاستعداد للإفادة منه بشكل واعٍ، أي أننا في هذه الحالة نفتح النوافذ للقادم ونسعى للإثراء بما فيه، المشكلة بالطبع أن هذا القادم قد لا يكون كله مثرياً أو مرغوباً فيه، لكنها سنة الحياة، من المستحيل أن نعيش في غرف مغلقة فلا نفتح الأبواب أو النوافذ، إن الانفتاح الثقافي مصطلح وقيمة يكثر الحديث حولها، وأظن أن ما يقال يحتاج إلى بعض التعليق، حين نتحدث عن الانفتاح يحضر للذهن مباشرة النقيض أي الانغلاق، وفي تقديري أن كلا المصطلحين محدود لأنهما مبنيان على تصور مثالي أو إطلاقي في الدلالة، فلا يوجد في العالم الإنساني انفتاح مطلق أو انغلاق مطلق، أما المنغلق فيتوهم أنه أقفل كل المداخل وحمى نفسه تماماً في حين أنه مخترق من كل الجهات. الانفتاح والانغلاق، كما نعلم جميعاً، نسبيان والمصطلحان لا يساعدان على فهم هذه النسبية، ولذا أرى أن مصطلح "التفاعل الثقافي" أفضل لأنه أدق في وصف ما يجري.