جئت عيادتي وقد علمت مسبقاً بوجود ممرض سعودي في مرحلة تدريب الامتياز سيشاركني العيادة كمتدرب. دخلت فوجدت شاباً قد أخذ زاوية من المكان وهو منهمك يلهو بجواله. بعد تحيته أشرت إليه بإغلاق الجوال وقلت له توقعت أن أجدك منكباً على ملفات المرضى المتراكمة حولك تراجعها لتسأل عن مصطلح طبي أو اسم دواء، ابتسم ولم يُجِب. امتد بيننا حوار في المساحة الزمنية الخالية بين مرضى العيادة عندما لاحظت عدم إتقانه اللغة الإنجليزية وعدم إلمامه بالمصطلحات الطبية الشهيرة، علماً بأنه قد حصل على البكالوريوس مؤخراً من جامعة حكومية، وهو الآن متدرب في سنة الامتياز. سألته لماذا اخترت التمريض تحديداً؟ فقال: هي هكذا.. وجدته متاحاً فتقدمت. سألته عن وعيه بتحديات هذه المهنة وعن النظام الصحي في البلد وأبرز إشكالياته، سألته عن متابعته الإعلام والمشكلات المتعلقة بالفئات الفنية التي يتناولها المجتمع بالنقد والتعليق، فكانت كل إجاباته «لا أدري». قلت له -مبتسماً- في هذه الحالة أنت مشروع (ضرر) محتمل في حق المرضى، فبادلني الابتسامة مثلها وقال (لا، إن شاء الله ما يصير إلا خير). عرضت هذا الحوار على مجموعة من التمريض السعودي فأكدوا أن هذا واقع الحال وهذا هو مستوى أغلب الخريجين الجدد من الجنسين في المجال الفني الطبي بكافة تخصصاته. سأختصر للقارئ الكريم مسيرة هذا الشاب وغيره إن لم تحدث صدمة من نوع ما تفيقه من هذه الغيبوبة. هذا الممرض بعد أن حصل على البكالوريوس وسيمضي مرحلة الامتياز بصحبة ال(واتسآب) ثم يتقدم إلى الخدمة المدنية أو إلى برنامج التشغيل الذاتي -لا فرق- ولكونه من جامعة حكومية فلا يوجد اختبار من قِبل الهيئة السعودية للتخصصات الصحية، ثم يتوظف ويصبح عالة على القسم، ولأن وزارة الصحة لا يوجد فيها نظام يميز الحسن من السيئ أو ينتشل الضعيف من ضعفه، سيسعى هذا الشاب بعد فترة قصيرة مستعيناً بأمه وأبيه وعمه وذويه وقبيلته التي تؤويه ليختبئ في مكان إداري وتستمر دورة الهدر البشري التي بدأت من التعليم. هذه ليست حالة فردية، بل يكاد يكون إجماعاً من قِبل العاملين في الميدان والمراقبين للمخرجات الطبية ملاحظة الضعف البين في هذه المخرجات، بما في ذلك خريجو كليات الطب في القطاعين الحكومي والخاص. من خلال الحوار أعلاه يمكن الحكم على الخلل العميق في عملية تعليم وتأهيل هذا الشاب وأمثاله، وهو في الحقيقة (مجني عليه) عند تأمُّل السياق كاملاً. المقابلة الشخصية المبنية على معايير صارمة تليق بمهنة الطب واللغة الإنجليزية كسنة أولى تضاف لكليات الطب والعلوم الطبية المحلية وتوجيه العملية التعليمية والتدريبية لصالح إيجاد الوعي بالشأن الصحي المحلي وتكثيف مناهج أخلاقيات وقانون الممارسة الصحية، مع ترشيد القبول مؤقتاً إلى حين افتتاح المستشفيات الجامعية المتعثرة في الجامعات الناشئة، كل تلك العوامل يجب العمل عليها عاجلاً لأن الحالة العامة للخدمة الطبية للمرضى والمعتمدة بشكل كبير على العنصر البشري لا التقني تمر بمأزق خطير. لا يبدو أن مؤسساتنا التعليمية والخدمية تدرك طبيعة المرحلة والتحديات التي يمر بها الوطن داخلياً وخارجياً، فبين مخرجات ضعيفة يتم تصديرها لسوق العمل، وبين واقع عملي لا يحفل بالإتقان متكئاً على فكرة الوظيفة لا المهنة والحضور لا الرسالة، تتراجع الموارد البشرية لصالح التيه والضياع. في المجال الطبي ومخرجاته تحديداً نحن نكرر ذات الأخطاء التي أفرزت جيلاً من الفنيين من المعاهد أيام إشراف وزارة الصحة عليها وذوبانهم في المشهد الإداري واستحالة إعادتهم للمشهد الفني إلى خريجي المعاهد الخاصة وما اعتراها من سلبيات يعلمها الجميع، وانتهاءً بالواقع الحالي خاصة في الجامعات الناشئة. إنه لا خيار أمامنا إذا أردنا الاستثمار الصحيح في العنصر البشري الوطني في المجال الطبي إلا إعادة نظرة جذرية في فكر التعليم الطبي وتطبيق المدارس الحديثة الصارمة وتصحيح الخلل العميق في الجهات مقدمة الخدمة لانتقاء وترقية الأفضل لا الأقدم.