«الفدائيون»، «المناضلون»، «المقاتلون من أجل الحرية»، «حركات الكفاح المسلح»، مصطلحات ومفردات سادت على مدى عقود في وسائل الإعلام ودوائر السياسة. أضيف لها لاحقاً مصطلح «المجاهدون»، وذلك أثناء الغزو السوفييتي لأفغانستان. «الإرهابيون» كان أقلها استخداماً، رغم محاولات إسرائيل ودوائر الصهيونية العالمية إلصاق هذه التهمة بالفلسطينيين، متناسين ما قامت به المنظمات الإرهابية الصهيونية ك«الهاغانا» من أعمال إرهابية مروعة في فلسطينالمحتلة وما يمارسه الكيان الصهيوني من إرهاب مستمر. خلال ثمانينيات القرن المنصرم كانت وسائل الإعلام الأمريكية تصف ثوار «الكونترا» في نيكاراغوا، بالمقاتلين من أجل الحرية، والأفغان بالمجاهدين، وذلك تبعاً للهوى السياسي. في نفس الحقبة كان المؤتمر الوطني الإفريقي الذي يتزعمه نيلسون منديلا مصنفا من قبل نظام الفصل العنصري «الابارتايد» في جنوب إفريقيا كمنظمة إرهابية. والحال ينطبق على غيره من الحركات والمنظمات التي يتم تصنيفها وفقاً لمصالح السياسة وتوجهاتها. حينها لم يلتصق الإرهاب بالمسلمين ولم يصنف ك«إرهاب إسلامي» فالحركات الجهادية المتطرفة لم تكن ظهرت بعد على المسرح الدولي. في أعقاب حادثة الحادي عشر من سبتمبر أعلنت أمريكا الحرب على الإرهاب. منذ ذلك الحين والإرهاب يتفاقم، شهد العالم ولادة منظمات إرهابية تبنت عمليات مروعة في دول عدة منها المملكة العربية السعودية التي أسهمت بجهود كبيرة في مكافحة الإرهاب الذي اكتوت بناره، ومع كل ذلك تواجه حرباً إعلامية شرسة لربط الإرهاب بها. ابتكرت إيران مصطلح «الإرهاب الوهابي» محاولة ترويجه بشكلٍ فج مع كل عملية داعشية، وآخرها تفجيرات باريس. السلوك الإيراني ليس جديداً على أي حال، كما أن إيران -الدولة الراعية للإرهاب- لا تحتمل رؤية المملكة توقف مشروعها التخريبي في الدول العربية، فأطلقت أبواقها في حملة مسعورة ضد كل ما له علاقة بالسعودية. تساءلت في مقالات عدة كيف يتم صنع الإرهابي؟ هل يكفي الخطاب التحريضي المتشدد لصناعة إرهابي مستعد للتفجير والتدمير؟ كما تساءلت عن سبب غياب الدراسات الاجتماعية، وعن أسباب وجذور الإرهاب؟ مع كل عملية إرهابية أراقب ردود الفعل وتعليقات المعلقين وتفسيرات المحللين، أكثرها يدور حول الوضع الإقليمي واضطراب الأوضاع، أي أنه التفسير أو الدوافع السياسية. من جانب آخر هناك من يعود مع كل حادثة لتحميل المناهج وحلقات تحفيظ القرآن والدعاة وزر ذلك، أي أنه التفسير أو الدوافع الأيديولوجية. قد يكون بعض ما يشار إليه صحيحاً، لكن كيف يُفسر ظهور المليشيات المسلحة الأمريكية، وطائفة أوم شنريكيو اليابانية وغيرهما، علاوة على انضمام عدد من ذوي وذوات العيون الزرقاء للقاعدة وداعش؟! يقول الدكتور غازي القصيبي في مقدمة ترجمته لكتاب «المؤمن الصادق»: «…سؤال شغلني منذ أن بدأت ظاهرة الإرهاب تشغل العالم، وهو: لماذا يصبح الإرهابي إرهابياً؟… فوجئت أنني عثرت، أخيراً على ضالتي، حيث لم أتوقع: في كتاب لم ترد فيه كلمة الإرهاب، ونشر في زمن لم تكن فيه ظاهرة الإرهاب معروفة. إلا أن الإرهاب وليد التطرف والكتاب معنيّ بالتطرف: جذوره وبذوره. والمعادلة التي يعرضها المؤلف بسيطة ومقنعة في الوقت ذاته، وهي تبدأ بالعقل المُحبَط. يرى الإنسان المحبط عيباً في كل ما حوله ومن حوله، وينسب كل مشكلاته إلى فساد عالمه، ويتوق إلى التخلص من نفسه المحبطة…، إنني أرجو أن يكون نشر الكتاب باللغة العربية مقدمة لعملين لا بد منهما: أما أولهما، فمتروك للباحثين الذين يجب أن يعرضوا تحليل المؤلف على واقع الإرهاب المعاصر وأن يتركوا للدراسات الميدانية الدقيقة أن تصدّق أو تكذّب تحليله «وفي رأيي أنها ستصدّقه!» وأما ثانيهما، وهو أخطر، فيقع على عاتق الدول العربية التي يجب أن تمتلئ بالفرص، وتزدهر بالأنشطة، وتبوح بمؤسسات المجتمع المدني النشطة على نحو يقضي على الإحباط بين الشباب، أو على جزء كبير منه. بزوال الإحباط يزول التطرف وبزوال التطرف ينتهي الإرهاب. هذا -في رأيي- هو الأسلوب الوحيد الناجع لمشكلة تقض مضاجع العالم كله». يُعرّف إيريك هوفر «المؤمن الصادق: بأنه الرجل ذو الإيمان المتطرف المستعد للتضحية بنفسه في سبيل القضية المقدسة»، مع ملاحظة أنه لا يتحدث هنا عن الحركات الدينية وإنما يتحدث عن الحركات الجماهيرية بغض النظر عن معتقدها الفكري أو الديني أو برنامجها الذي تتبناه. ويفترض أن الإحباط في حد ذاته ومن دون دعوة أو محاولة للاستقطاب من الخارج، يكفي لتوليد معظم خصائص المؤمن الصادق، كما أن الأسلوب الفاعل في استقطاب الأتباع للحركة يعتمد أساساً على تشجيع النزاعات والاتجاهات التي تملأ عقل المحبط. في الكتاب تفسيرات وإجابات لظواهر نعيشها اليوم وتأتي تفسيراته خارج السياقات التقليدية، التي تختزل موضوع الإرهاب في الجوانب الإيمانية. فهو يتطرق إلى ضعف المرجعيات، وتفكك أو تفكيك الأسرة، وقلق المراهقين، ومعاناة العاجزين عن التأقلم، وملل الملولين، وكيف تستطيع الحركات الجماهيرية اجتذابهم وتجنيدهم. أما مرتكبو المعاصي -كما يصفهم- فيقول: إن الحركات الجماهيرية تظهر وكأنها صممت خصيصاً لتلائم احتياجاتهم من حيث تطهير أنفسهم، وإتاحة الفرصة لهم لممارسة نزعاتهم ومواهبهم. «إن المحبطين إحباطاً شديداً تنمو لديهم، على نحو عفوي الرغبة في العمل الجماعي، وفي الوقت نفسه، في التضحية بالنفس، وهكذا فإنه من الممكن أن تُفهم هذه النزعات والأساليب التي تُتبع لغسل الأدمغة إذا راقبنا كيف تولّد داخل العقل المحبط». «إن احتقار الحاضر، والقدرة على تخيل أشياء غير واقعية، والنزعة إلى الكراهية، والاستعداد للتقليد، وسرعة التصديق، والاستعداد لتجربة المستحيل، كل هذه المشاعر، وكثير غيرها، تزحم عقل الإنسان المحبط، وتدفعه إلى الأعمال اليائسة،… لا توجد وسيلة لتقزيم الحاضر أجدى من تصويره كمجرد حلقة بين ماضٍ عظيم ومستقبل عظيم…، وأن يخسر المرء حياته يعني أنه لا يخسر سوى الحاضر، ومن الطبيعي أن فقد حاضر ملوث لا قيمة له لا يعني فقد كثير». بقي أن أشير إلى أن هذا الكتاب صدر في العام 1951م، حين كان مؤلفه عاملا بميناء سان فرانسيسكو، وعلم نفسه ذاتياً من خلال قراءاته وتأملاته. رغم مرور أكثر من ستين عاماً على صدور «المؤمن الصادق» فإنه يجيب على كثير من الأسئلة الحائرة حول الإرهاب. هذا جهد رجل عصامي غدا أحد فلاسفة العلوم الاجتماعية، الجهد الآخر بذله الدكتور غازي القصيبي حين ترجمه قبل عام من وفاته رحمه الله، فأين دور جامعاتنا ومراكز بحوثنا؟ وأين أبحاث أعضاء هيئات التدريس في كليات العلوم الاجتماعية؟ أم أننا لا نعترف بالدراسات الاجتماعية، لذا لا نهتم بها! درجنا على فوضى أضاعت جهودنا وغالوا بترتيب الجهود وأقدموا