من شاهد الطفل الأمريكي المسلم وهو يقف مذهولاً، مقيد اليدين ومحاطاً برجال الأمن على طريقة كبار المجرمين، سيعتقد للوهلة الأولى أنه أمام صورة لإحدى لقطات أفلام هوليوود الحافلة بمشاهد العنف والقتل والتدمير، ولن يصدق حينما يقرأ المانشيت العريض الذي يوضح سبب اعتقال ذلك الطفل المسكين، وهو يُقاد إلى مركز الشرطة بأنه متهم بصناعة قنبلة! وطبقاً لما ورد في سياق الخبر أن المدرسة أبلغت رجال الأمن عن تلك القنبلة المزعومة دون أن تتأكد من صحة اعتقادها، وهنا أتساءل لو كان من جلب تلك الساعة طفلاً آخراً ليس في اسمه ما يدل على هويته الإسلامية، هل ستقوم بالإبلاغ عنه قبل أن تتأكد من شكوكها؟ أجزم بأنها ستتريث طويلاً وستتحقق من الأمر قبل الإبلاغ. كانت صورة الطفل أحمد وهو مقيَّد اليدين تختصر كل حكايات العنف اللفظي والجسدي الذي يمارسه رجال الأمن في مطارات وشوارع أمريكا وأحيائها لمجرد الاشتباه في كل من يحمل اسماً يدل على هويته الإسلامية، ويعون بكل بجاحة أنهم يقومون بتلك الممارسات -التي لا تخلو من الهمجية- من أجل حماية أمنهم القومي، كما أنهم لا يعيرون أدنى اهتمام لسن المسافرين الذين يقصدون مطارات أمريكا من أجل الدراسة أو العلاج، فالتعامل الجاف وهمجية الأسلوب تطغى على أغلب رجال الأمن والعاملين في المطارات الأمريكية. لقد ذكرتني صورة الطفل أحمد وهو مقيد بموقف شاهدته قبل سنوات في مطار جون كنيدي في ولاية نيويوركالأمريكية حينما تخطى صبي مسلم لم يتجاوز عمره العشر سنوات المكان المخصص للوقوف قبل أن يمر عبر جهاز التفتيش كما جرت العادة، فما كان من رجل الأمن إلا أن دفعه بقوة إلى الخلف بطريقة همجية أمام أنظار والده الذي لم يتمالك نفسه، حيث دخل في مشادة كلامية أدت في نهاية المطاف إلى أن يتم سحبه بصورة مهينة ومذلة بمعية ابنه الصغير إلى إحدى غرف الاستجواب أو بالأصح غرف هدر كرامات ذوي الملامح الشرق أوسطية، وقد كنت حينها على وشك أن أكون الضحية التالية لولا لطف الله بي إذ تحاملت على نفسي وتجاهلت استفزازات رجل الأمن المتكررة. والذين يقصدون المطارات الأمريكية يعرفون أن مثل هذه الحالات تحدث باستمرار مع القادمين من الدول الإسلامية والعربية، وإن تفاوتت درجة الاستفزاز من رجل أمن إلى آخر فكلهم يتصرفون تحت تأثير الكراهية التي ملأت عقولهم وقلوبهم بسبب أحداث الحادي عشر من سبتمبر. أرجو ألا يُفهم من استشهادي بتلك الحادثة أنني أعمم فكرة الكراهية والعنصرية ضد كل ما هو مسلم في أمريكا، فالشعب الأمريكي شعب متعدد الثقافات والديانات بل إنه نموذج رائع لمفهوم التعايش بين المختلفين إثنياً وعقدياً، لكن المشكلة تكمن في أن هناك من يروج لفكرة أن الاسلام هو الخطر الحقيقي الذي يهدد الحضارة الأمريكية، فبزعمهم أن الإسلام دين عنف وقتل، وليس في تعاليمه ما يدعو إلى التسامح والتعايش والمحبة بين بني البشر، بل بلغ الأمر ببعضهم أن يقول بإن الإسلام يحث أتباعه على سفك دماء الأبرياء فقط لمجرد أنهم ليسوا مسلمين!. والحقيقة أن الأخبار الشاردة والواردة من هنا وهناك عن جرائم القاعدة ساعدت الإعلام الأمريكي المتحيز ضد الإسلام أن يمرر أهدافه الدنيئة، مستعيناً بما كانت تقوم به القاعدة من استهداف للمواطنين الغربيين ليوهم الشعب الأمريكي أن هذا هو الإسلام في صورته الحقيقية، حيث يتطلب الأمر حرباً مقدسة -كما جاء على لسان بوش الابن- كي تصبح ممارسات تضييق الخناق على المسلمين فيما بعد في الداخل والخارج مقبولة في إطار المحافظة على الأمن القومي، وهذا ما جعل بعض رجال الأمن في أمريكا يشعر بأنه لن يتعرض للملاحقة القانونية في حال أنه أساء معاملة المسلمين حتى لو كانوا من أبناء جلدته!. ولست هنا بصدد الحديث عن قيم العدل والمساواة وحرية المعتقد التي يكفلها الدستور الأمريكي للشعب، فأنا على يقين تام بأنه من السهل الالتفاف على تلك المبادئ والقوانين وتعطيلها بفضل الماكينة الإعلامية التي تضخ ليل نهار أفكاراً مغلوطة عن الإسلام بشكل متعمد، وتصويره على أنه العدو المتربص بمنجزات الحضارة الغربية، وبأن أتباعه يتحينون الفرص من أجل تقويض أركان الأمن والاستقرار في المجتمع الأمريكي، رغم أن أكثر المجتمعات التي تضررت من الأعمال الإرهابية التي كانت تشنها القاعدة هي وبلا جدال مجتمعاتنا الاسلامية، ويأتي في مقدمتها المملكة العربية السعودية التي عانت كثيراً من العمليات الإرهابية خلال السنوات الماضية. ليس لدي أدنى شك بأنه لو كانت تفاصيل حادثة الاعتقال وقعت في بلد مسلم لما توانت الصحف الغربية عن تغطية الحدث، ولرأيناها تتسابق على تخصيص مساحات هائلة من صفحاتها لوصف وحشية الأنظمة العربية والإسلامية، وكيف أنها تسحق براءة الأطفال بهمجيتها المفرطة، دون أن تُراعي حقوق الطفل التي نصت عليها الأعراف والمواثيق الدولية التي هي جوهر القيم الإنسانية التي أعلت الحضارة الغربية من شأنها في دساتيرها وقوانينها. صحيح أن عديداً من الصحف الأمريكية تناقلت خبر استقبال الرئيس الأمريكي للطفل أحمد حيث قدم اعتذاره للطفل عما حدث له من اعتقال وسوء معاملة كنوع من ذر الرماد في العيون بعدما شاع الخبر في وسائل التواصل الاجتماعي والصحافة العالمية، وهذا ما يجعلني أجزم بأن الدافع الحقيقي لاستضافة السيد أوباما للطفل أحمد في البيت الأبيض لم يكن دافعاً إنسانياً محضاً، فما حدث في مدينتي فيرغسون وبالتيمور الأمريكيتين يدحض كل الادعاءات بأن سيادة الرئيس أوباما تحركه النوازع الإنسانية أكثر من الدوافع السياسية في كثير من مواقفه وقراراته تجاه العالم العربي والإسلامي، وأن استضافته للضحية ليست سوى محاولة لتجميل وجه أمريكا القبيح.