تُعد الانتخابات الوسيلة الأمثل لتعزيز قيم المواطنة والمشاركة الفعالة في تنمية الدول، لأنها تُعد تجسيداً حقيقياً لمفهوم الديموقراطية التمثيلية (representative democracy)، التي يترتب على إثرها انخراط المجتمع بكافة مكوناته عبر ممثليهم في صنع القرارات المهمة والمؤثرة، كما هو حاصل في عديد من المجتمعات الغربية التي ترتفع فيها نسب مشاركة المواطنين في أعراسها الانتخابية، رغم أن الحراك السياسي في تلك المجتمعات لا يخلو من التجاذبات السياسية الصاخبة كنتيجة طبيعية لاختلاف الآيديولوجيات، والقوميات، والانتماءات الحزبية، إلا أنه في نهاية المطاف يُعتبر ظاهرة صحية في المجتمع. لكن ما قيمة الانتخابات طالما أن المجتمع لا يشهد حراكاً سياسياً أو ثقافياً يرفع من مستوى الوعي في حدوده المعقولة؟ أطرح هذا التساؤل، ونحن في خضم الاستعداد لتجربة انتخابية جديدة أتمنى أن تكون مختلفة، ولو بقدر معقول عن التجارب السابقة، التي لم تُحدث أي فارق لا في تحسين جودة الخدمات المقدمة للمواطنين، ولا حتى في بث روح التفاؤل في إمكانية وصولنا إلى مرحلة النضج الانتخابي في التجارب القادمة!. ومما لا شك فيه هو أن البيئة تشكل أهم مقومات نجاح أي تجربة انتخابية، فالبيئة التي تفتقر للتعدد والتنوع لا تصلح على الإطلاق أن يطبق فيها أي مظهر من مظاهر الديموقراطية، لأن النتائج التي ستترتب على مثل هذا النوع من التجارب لن تكون مجدية، بل هي أقرب إلى حالة المزارع الذي يزرع الورد والأزهار في أرض قاحلة، دون أن يحرث تربتها ويعيد تأهيلها لتكون صالحة لزراعة النباتات والأشجار المتنوعة. وهذا الوصف ينسحب على كل التجارب الانتخابية في دول الخليج، ويأتي في مقدمتها تجربة الانتخابات البرلمانية في الكويت على اعتبار أنها الأقدم والأكثر صخباً، مع فارق أن الحراك السياسي غير المنضبط قد تقوم به بعض المؤسسات الإعلامية التي تفتقر للموضوعية، حيث دائماً ما تتحول إلى حلبة صراع بين المختلفين آيديولوجياً ومذهبياً، والمحصلة النهائية هي تعطيل المشاريع التنموية، وتعثر المجتمع في وحل السلبيات. حديثي هنا يقتصر على تجارب دول الخليج العربي، على اعتبار أنها تجارب حديثة نسبياً رغم التفاوت في نسب مشاركة المواطنين في الانتخابات، والصلاحيات الممنوحة للأعضاء والنواب في المجالس البرلمانية والبلدية، إلا أنها تشترك جميعها في قاسم واحد ألا وهو ضعف التأثير، سواءً في السياسة الداخلية أو الخارجية، وذلك بسبب عدم نضج تجربة مؤسسات المجتمع المدني في دول الخليج العربي، التي من المفترض أن تلعب دوراً أساسياً في تشكيل وتكوين الوعي السياسي والثقافي لأفراد المجتمع. وأعتقد أن أي تجربة انتخابية لا تولد من رحم مؤسسات المجتمع المدني سيكون مصيرها الفشل الذريع، وذلك لعدة أسباب؛ أهمها على الإطلاق أن مؤسسات المجتمع المدني هي النواة الحقيقية لنشر الثقافة الحقوقية بمفهومها الواسع لدى الطبقات الاجتماعية المختلفة، بحيث تصنع منهم شركاء حقيقيين في تنمية مقدرات الوطن ومحاربة كافة مظاهر الفساد، والحيلولة دون استشراء الاستبداد الديني والقبلي. أضف إلى ذلك، أن تلك المؤسسات تعتبر المكان الطبيعي لتكوين وتشكيل الشخصية القيادية القادرة على فهم المتطلبات، التي يجب تحقيقها في كل مرحلة زمنية يمر بها المجتمع، لأن رصيده من الخبرات العملية التي اكتسبها من خلال انخراطه في أنشطة تلك المؤسسات ستجعل منه شخصاً واقعياً، يميل في كل قراراته إلى التركيز على الأولويات بمشاركة من حوله، دون الاعتماد على أشخاص بعينهم. أما مسألة أن يخوض المرء الانتخابات دون أن يمتلك تجربة حقيقية تعينه على فهم طبيعة المسؤوليات التي ستناط به في حال فوزه في الانتخابات، فهي لا تعدو كونها مغامرة غير محسوبة العواقب، وربما ستتسبب مستقبلاً في إحجام كثير من الناخبين عن المشاركة، وعندها سنجد أن الانتخابات تنحصر شيئاً فشيئاً في إطار قبلي ومناطقي ضيق جداً، وهذا ما هو حاصل الآن، حيث ضعف إقبال الناخبين على تسجيل أسمائهم، يبرهن على أن كثيرين لا يؤمنون بجدوى إجراء الانتخابات في ظل ضعف دور مؤسسات المجتمع المدني. بقي أن نقول إنه من الصدف غير السارة، أن ولادة مؤسسات المجتمع المدني في المملكة تزامنت مع ولادة الانتخابات البلدية في فترة زمنية متقاربة جداً، الأمر الذي أدى إلى أن تظل تلك المؤسسات تراوح مكانها، رغم جهود جمعية حقوق الإنسان – الجيدة نوعا ما – في نشر الثقافة الحقوقية في المجتمع، بيد أنها لم تتخط مراحل التأسيس بخطوات كافية تجعل منها نموذجاً حقيقياً لمؤسسات المجتمع المدني في المملكة العربية السعودية. حقيقة لا أعرف مدى إيمان الشارع السعودي بفعالية أداء المجالس البلدية بعد تجربتين انتخابيتين، إلا أنني متأكد تماماً بأن ما تم إنجازه لا يمثل ربع ما وعد به الأعضاء الفائزون في الانتخابات الماضية، التي تندرج في مجملها في فلك العموميات التي يستطيع الرجل الأمي الحديث حولها بذات النبرة المتفائلة في حملاتهم الانتخابية.