نتذكر اليوم «محمد أركون» المفكر الجزائري الأصل وصاحب الإسلاميات التطبيقية، في ذكراه الرابعة في ظروف لا تقل قتامة وسوداوية عن تلك التي ساهمت في إبرازه كمثقف لا ينفك يبحث عن جذوره. تمر ذكراه والأوضاع هي الأوضاع، الصوت المرتفع هو ذاته الصوت النشاز بالنسبة للراحل المرهف، الإنساني الرقيق، الذي لم ينفك كما يخاله بعضٌ يراهن على جواد «الأنسنة» الخاسر. لم يتغير شيء إطلاقا، الواقع اليوم هو الواقع المخرب نفسه، الواقع المعتم الذي تسوده مناخات تعبق برائحته الكريهة، رائحة الفوضى، والردة الظلامية التي تؤدي دور «الأصولية» التي تتلاعب بها الأصابع القذرة للمكيافيللية السياسية، وكأن الراحل في ذكراه يشتد غيابا، كأنه يحثنا على مرثية تنعى فيه رحيلا مضاعفا: موت الجسد ومجانية الفكر والمنهج الذي قضى عمره في تعبيده. لكن «المرثية» تحثنا على أكثر من ذلك، إذ نتذكر «أركون» ولكن على نحو إشكالي، نستعيد ذكراه على شكل سؤال مؤرق: أين هو أركون من كل هذا؟ أين هو وسط التراجعات التي تخطت التدين التقليدي مرورا بتصور نهضوي لإسلام متنور منفتح وصولا لأشد القراءات حرفية وجهالة؟ ولكن أولا وقبل ذلك أين يكمن الخطأ؟ أين تكمن الأزمة؟ أفي المنهج والفكر أم الواقع الإسلامي الواقع بين سندان المنظورات الأحادية والجامدة للهوية ومطرقة حداثة مشوهة ومنتهكة بغطرسة المركزية الغربية؟ أركون نفسه يشبه واقعه الذي أنتجه، من حيث خطابه الذي كرسه لنقد مزدوج يستهدف تلك المطرقة وذلك السندان: ولد محمد أركون المنتمي للأقلية الأمازيغية عام 1928 في بلدة جزائرية، وقد عركته الصدمة الثقافية وهو صبي حين التحق بمدرسة تبشيرية قبل دراسته الأدب والتحاقه بجامعة «السوربون» في باريس تحت رعاية المستشرق المعروف «لويس ماسنيون» صاحب أطروحة الخيال الخلاق والمهتم بدراسة الفلسفة الصوفية كما هي تحديدا عند محي الدين بن عربي. تظلل أركون تحت واقعه الإشكالي منذ ولادته، بل يمكن القول أنه نشأ في قلب المشكلة التي تحيط به، تماما كما تحيط بنصه ورحيله وذكراه، نشأة تعالقت على نحو جذري مع إشكالية «الهويات القاتلة» بتعبير أمين معلوف، الهويات المركبة والمزدوجة القابعة في قلب التنافرات بين الأقلوي والحضاري السياسي، بحيث تعزز السمة الأقلوية للهوية «الأمازيغية» الجمود التاريخي والواقع المتأخر لمجتمعات تعاني من الهيمنة الخارجية الاستعمارية، مما يزيد من فداحة الإحساس بالمهمش والموقع الهامشي، هامشية مضاعفة هي في الآن نفسه الدافع والعنوان الذي يفسر الاختيارات المنهجية والتشخيص الأركوني للأزمة: الداء الماثل في الأصولية، كما في الهيمنة المتغطرسة للغرب. غير أن الاهتمامات الأساسية عند محمد أركون اهتمامات منهجية، النص الأركوني يقف على تخوم النص، هناك ما يشبه المراوحة المنهجية، بحيث تبدأ كل الأعمال بصيغة «نحو»..نحو أنسنة، نحو تاريخ مقارن، نحو إسلاميات تطبيقية، نحو إسلام منفتح وحداثي..الخ، كل شيء يتخذ صيغة الطريق المؤدي إلى النص المراد تشخيصه وتحليله وتفكيكه، كأن أركون مهندسا ليس إلا، «مهندس طرق» بارع، كما لو كان النص مجرد عتبة لنص آخر لا يتجاسر أحد على اقتحامه، هو ذلك النص الذي لم يزل عصيا ومستغلقا ومتعاليا على التاريخ والنقد العقلاني. وإذ يقدم المقترح الأركوني المنهجي ذاته كدعوة لتطبيق أدوات النقد المعاصر ومناهجه المعرفية «التاريخية واللسانية والأنثربولوجية» كوسيلة للتعرف على الحقيقة، فإن المكوث الطويل في دائرة المنهج والطريق وافتقاد الجسارة اللازمة لتجاوز العتبة نحو النص نفسه، أي «الإسلاميات التطبيقية»، يلوح كمأزق سيكولوجي هو تعبير وامتداد في الوقت نفسه لمآزق النشأة والهوية الإشكالية، كأن في التأكيد الهوسي على المنهج اعترافا ضمنيا بقوة الخصم الأصولي وشراسته من جهة، وحصانة النص وإطلاقه من جهة ثانية، والشك في مآلات المشروع ونجاعة المنهج ذاته في وسط إشكالي معقد من جهة ثالثة. هناك من يرى على العكس الضرورة الحتمية للمنهج، ليس لأن عتبة النص وكيفية اقتحامه هي الخطوة الأكثر أهمية من ولوج النص ذاته، وإنما أيضا لتركيب الظاهرة وتعقدها واستثنائية الواقع واللحظة التاريخية لواقع ثقافي وجغرافي ملتبس هو جنوب وشرق البحر المتوسط، حيث الإشكالية إشكالية منهج، تعقيد الظاهرة مدعاة لتعقيد المنهج، وما التقدم الذي أنجزه الغرب الحديث إلا تقدم مادي مقترن أولاً وقبل كل شيء بتحولات المنهج، وباختصار شديد، تكمن الأزمة في فارق أساسي بين رؤية مدعومة بالمنهج وأخرى تفتقد أدواته.