فقدت الجزائر خلال فترة قصيرة علمين بارزين هما الروائي الطاهر وطار وأخيراً المفكر الإسلامي الكبير محمد أركون. وإذا كان الطاهر وطار يشكل الابن المدلل لهذه الثقافة فان ما يمكن أن يطلق على محمد أركون من تسمية هو أنه الابن المنشق والمتمرد عليها، ليس على الثقافة الجزائرية، وليس على المجتمع الجزائري، ولكن على النظام الذي حكم البلاد بعد الاستقلال عام 1962 والذي لم يعبر عن تطلعات الجزائرالجديدة بعد قرن ونصف من الاستعمار الفرنسي اختار أركون منذ أن بدأ يسلك طريقه المعرفي أن يكون مستقلاً في سلوكه ومعرفته، وأن تبقى علاقاته بالمحيط الذي ينتمي إليه علاقة حنين متأصل ما يفتأ في كل مرة من تذكره والتحدث عنه. وبخاصة لتلك القرية الصغيرة التي ولد فيها «تاوريرت ميمون» بمنطقة القبائل الكبرى بالجزائر عام 1928، والتي عرفت أيضاً مسقط رأس واحد من أهم روائيي الحقبة الكولونيالية المبدع مولود معمري صاحب رواية «الأفيون والعصا» و «سُبات العادل». وهي منطقة كما يقول أركون تسود فيها الثقافة الشفوية وتتميز بلغة غير مدونة، وبالتالي سيواجه أركون وهو في التاسعة من عمره عندما يرحل والده لمنطقة بغرب الجزائر (عين الأربعاء) نفسه مضطراً لتعلم لغتين جديدتين عليه هما العربية والفرنسية، حتى يفرض نفسه ضمن تفاوت طبقي واضح بين ثقافة المستعمر والثقافة العربية التقليدية، وأصوله البربرية، وهو التحدي الذي سيمنحه تفوقاً واضحاً في مساره العلمي بعدها. بعد دراسته الثانوية بوهران وانتقاله لكلية الفلسفة بجامعة الجزائر إلى أن يتم دراسته العليا بالسوربون باريس/فرنسا. لقد اهتم محمد أركون بالفكر النقدي وبمسائل على قدر كبير من الأهمية في مجال الإسلاميات ولعل الزمن قد أعطى له الحق بعدها، عندما عرفت المنطقة العربية والإسلامية ظهور الحركات الدينية بمختلف أشكالها وأنواعها، وتمت العودة إلى رؤيته تلك كبديل عن التزمت والانغلاق، لقد حذر مسبقاً من تداعيات الانحراف الديني من دون أن يدخل في المواجهات المتعصبة أو الصراعات المتزمتة، وظل ينأى بكتاباته على أن تكون مجرد ردود فعل إيديولوجية سريعة الزوال، وكان يعتبر المعرفة هي الحل، وهي الطريق الأسلم لكي لا تتكرر الأخطاء مرة بعد أخرى. سوء الفهم هي المشكلة التي واجهت أركون سواء مع أبناء بيئته أو من طرف المستشرقين الغربيين. ولقد وجد نفسه دائماً في صراع مزدوج مع تلك الأطراف التي لم تخرج من غطاء الايدولوجيا لسماحة المعرفة وأرضها الرحبة. رحيل أركون هو خسارة كبيرة للعقل العربي والإسلامي، في مرحلة تزداد فيها الحاجة للعقل واجتهاداته. هنا آراء وشهادات من مفكرين وكتاب جزائريين عن أركون. أمين الزاوي: التجريد والتنظير كان لي شرف استضافة محمد أركون في واحدة من حلقات برنامج «أقواس» الذي كنت أعده وأقدمه للتلفزة الجزائرية، وقد اكتشفت في محمد أركون المفكر الذي ينزل من حيث السلالة الفكرية من ثلاث محطات فكرية أساسية: أولها المعتزلة وثانيها ابن رشد وثالثها أبي حيان التوحيدي الذي كان يعده أخاً روحياً له. من عقلانية ابن رشد والمعتزلة في قراءة المتن الديني وعلاقته بالسياسة والمؤسسة والنص والممارسة إلى القلق المعرفي الذي حمله أبو حيان التوحيدي تأسست أسئلة محمد أركون. كان محمد أركون حدثاً فكرياً في كل مشاركاته في دورات ملتقى الفكر الإسلامي الذي كان ينظمه المرحوم مولود قاسم بالجزائر، كانت نقاشاته مع الشيخ الغزالي إشارة فارقة للاختلاف بين فكرين يعيشان داخل مجتمع واحد ويدرسان متناً واحداً. لقد كفر الشيخ الغزالي محمد أركون وهو ما يؤكد قصور الفكر الديني لدى بعض المفكرين الذين يعتمدون أحكام «الزندقة والتكفير» على فكر يخالفهم وتلك مدعاة للفتنة. وهي مفاهيم ضد الإسلام السمح والمتسامح. كان في كل حياته العلمية والفكرية فيلسوفاً ومفكراً وعالم اجتماع شجاعاً، فالشجاعة الفكرية والسجالية المؤسسة على القراءة والمراجعة هي التي طبعت فكر محمد أركون. لم يتردد أبداً أمام مشكلة معرفية إلا وطرحها من دون خوف ومن دون اعتبار للمؤسسات أو السلطة مدنية أو سياسية أو دينية، كان يعتقد بسلطة العلم والعالم، وهو ما حقق منه كثيراً. محمد أركون هو مفكر اللامفكر فيه. كان دائماً يشدد على دراسة الفلسفة لأنها هي الوحيدة التي تترك وتحافظ على الفكر في حيويته ونشاطه وحيرته وأسئلته ومساءلاته. عاش محمد أركون شاباً في فكره. لم يستسلم للأفكار الغيبية كما فعل كثير من الفلاسفة العرب حين أدركهم المال أو السلطة أو العمر من أمثال محمد عمارة وغيره. كان محمد أركون المفكر الذي جمع أطراف التجريد والتنظير بالممارسة والسلوك. ظل بعيداً عن كل مبايعة أو تجيير أو بيع أو شراء. احتفظ باستقلاليته التي أعطته القوة والشجاعة والتفرد. لقد طرح محمد أركون علينا ومن خلال دراساته ومساءلاته للفكر الديني عامة والإسلام في شكل خاص مشكلة علاقة العالم الإسلامي عامة والعربي خاصة بالغرب المسيحي والغرب اللائيكي. كما أنه كان يقول دائماً بأن الغرب لم يعرف ولم يحسن قراءة الإسلام والعالم العربي، وهذا وجه من وجوه الأزمة القائمة في ما يسمى ب «العيش المشترك». الحبيب السايح: بحثاً عن المصالحة قابلت محمد أركون مرة واحدة، ولدقائق، في الدارالبيضاء بالمغرب خلال أحد معارض الكتاب الدولي. وعلى رغم ذلك لا تزال تلك اللحظة محفورة في ذهني؛ بما لهيئة هذا المكفر الإنساني والفيلسوف والمؤرخ للمعرفة والعقل الإسلامييْن من جاذبية ساحرة؛ ليس لوسامته فحسب ولكن لهذه الروح الفياضة بالمشاعر النبيلة تجاهك والكلمات الدافئة التي يبادلك إياها بتواضع العالم العارف. كغيري، من المثقفين الجزائريين، ظللت وما زلت أحمل في صدري، وباحتباس، سؤال غربة محمد أركون الوجودية عن موطنه الأصلي الجزائر، وهو الأمازيغي الفذ، ليحضنه حتى الموت الفضاء الفرانكفوني والأنجلوساكسوني. فهو معروف، ليس كاسم كما هو حاصل للأسف في الجزائر، في الأوساط الأكاديمية والفكرية والفلسفية الأوروبية والأميركية والآسيوية، وفي المغرب الأقصى كما في تونس ولبنان والمشرق عامة، كواحد من أبرز المفكرين العالميين، مثله مثل إدوارد سعيد. فقد عاش يحاول أن ينقل إلى «الآخر» مشروعاً كبيراً واسعاً كبر أحلامه وسعتها من أجل إقامة الحوار الحضاري بين العقل العربي والثقافة الإسلامية، من وجهة نظر مفارقة وناقدة وتأسيسية لنهضة منتظرة، وبين غيرهما في العالم الغربي خاصة. لا بد أن محمد أركون، وهو يرحل، أن يكون خلف أثراً قوياً جداً ستطبع بصمته جهود الأجيال القادمة. ولا مفر للجزائر من أن تتصالح معه يوماً، على رغم اتخاذه جنسية أخرى وعلى رغم دفن رفاته في تربة غير تربة وطنه الأصلي وعلى رغم ما خلفته السياسية من رضوض، لأنه أحد أبنائها الكبار. عبدالرزاق بلعقروز: قلق السؤال قد يكون المفكر الجزائري محمد أركون من المفكرين القلائل الذين حظوا بالتقدير والتكريم في حياتهم الجسدية، فقد حصل على جائزة ابن رشد للفكر الحر عام 2003 وأنجزت حول فكره أطاريح متنوعة بين الماجستير والدكتوراه في الجزائر وفي العالم العربي والإسلامي، وكتبت حول أفكاره مؤلفات بلغات متعددة، وتبنت مؤسسات تعليمية حرة وخاصة تحليلاته ومفاهيمه، لأن المعهود في تاريخ إنتاج الفكر والمعنى أن الذين قضى قدرهم أن يفكروا ويسائلوا ويخمنوا القضايا الكبرى، بخاصة قضايا المعنى ورموز التأويل، أن لا يعرفوا من دوائرهم الاجتماعية وأنظمة الفكر سوى الاحتقار والتنكر والازدراء. قد عاش محمد أركون في حياته الجسدية مثل هذه المواقف وتعرض للنقد والرفض وغيرها، وهذه خصيصة راتبة في تاريخ الممارسة الفكرية وملمح صحة بخاصة إذا كانت تتقن مواصفات المساءلات بمقتضياتها العلمية، لكن ما أريد التنبيه إليه أن وفاة محمد أركون ستكون منعرجاً لأفكاره ومفاهيمه التي طورها، لأن القدر قد قضى بأن هناك أصنافاً من البشر يولدون بعد وفاتهم ويحيون بعد موتهم، وهذا ما سيكون مع أفكار محمد أركون التي كانت أفكاراً مجسدة في شخصه الواقعي وشخصه المفهومي، لكنها ستستحيل فكرة مجردة قيمتها في ذاتها وتتمثلها عقول أخرى تثير فيها قلق التساؤل وتدفع بها إلى متاهة الاشتغال المعرفي، ونحن بدورنا من الأجدى والأولى لنا أن لا نتعامل معها (أي أفكار محمد أركون) تعاملاً ترحييباً وإنشادياً نفقد مع مسالكها قلق السؤال وتميت فينا طاقة النقد والفحص والتأويل، وفي المقابل أن نخرج من ذهنية اللغة الإقصائية وتوزيع الشكوك ونثر الاتهامات حول مفاهيمه ومقاصد مشروعه المعرفي، وإنما مهمة المفكر اليوم في تعاطيه مع نصوص أركون أن يبصر في هذه النصوص مصفوفة من المفاهيم وحشداً من المنهجيات المستحدثة توقظ فينا عاطفة القلق الفلسفي وتدفع بنا إلى الخروج من امتدادات الفكر التراثي البشري النسبي في لا وعينا المعرفي والثقافي، والاعتماد على الذات في فعل القراءة والإبداع وإنتاج المعنى، فضلاً عن أن يكون المفكر ابناً لعصره يستوعب مستحدثات المعرفة العلمية ويتجاوزها ببصمة الفرادة والمخصوصية. أحمد دلباني: الفكر النقدي والأنسنة رَحل عنا البروفيسور محمد أركون. كأن الثقافة العربية / الإسلامية في بُعدها النقدي الطليعي – بعد غياب الأستاذ الجابري ونصر حامد أبو زيد – لم يكن ينقصُها إلا حسنُ الختام الذي يُسدل الستار على مغامرة التطلع إلى الخروج من نفق التاريخِ الإسلامي المتعثر أمام تحوُلات العالم وصيرورات المعرفة. كأن هذه الثقافة تريد أن تعيش موتها بامتلاءٍ، بعيداً عن صخب التاريخ ومُناوشات الفكر المطرود من جنة النظام الثقافي السائد. كأنها – في كلمة – تتنفسُ الصُعداء كلما تخلصتْ ممن مدُوا أيديهم إلى ثمار شجرة المعنى المُتخلِص من ضغط المرحلة وإرادة الهيمنة، وحملوا معهم خطيئة النقد إلى غيابات الغياب. هذا الغيابُ الفاجع يأتي ليعزز انتصار الثقافة العربية / الإسلامية في شكلها السائد الذي يحتفي بالدعاة والمبشرين ويُخصص لكل مفكر نقدي مكانه في جحيم إكليروس النبذ والتكفير. ويأتي هذا الغياب أيضاً لكي يُذكرنا بتراجع مسألية البحث عن الحقيقة في عالمنا لتُصبحَ وليدة الضغط السوسيولوجي لا الاختبار العقلي أو النقدي التفكيكي. رحل البروفيسور أركون بعد حياة علمية توشَحت بالنقد الذي أراده محاولاتٍ لا تكلُ في ترميم الجسور المنسوفة بين الشرق والغرب. فقد كان عمله الفكري التزاماً بإعادة النظر في منظومات الفكر المتمركزة على ذاتها، وكان نضالاً ضد كل أشكال الانغلاق المذهبي التي انتصبت «جدار برلين» ثقافياً بين الجزر الثقافية في أوقيانوس الحضارة البشرية. وقد تمثل عمله النقدي في التنطح للجبهتين اللتين شكلتا مدار اشتغاله النقدي طيلة نصف قرن تقريباً: الجبهة الإسلامية بموروثها وتاريخها الذي يعج بصنوف اللامفكر فيه من جهةٍ أولى، والجبهة الغربية التي ما زالت ترزح – قليلاً أو كثيراً – تحت ضغط مركزيتها وليدة عصر الأنوار والحقبة الكولونيالية من جهة أخرى. ونحن نعرف كيف أن المفكر الراحل افتتح بجرأة واقتدار علمي أضابير المسكوت عنه في الثقافة الإسلامية مُدشِناً «نقد العقل الإسلامي» ومجترحاً آفاق «الإسلاميات التطبيقية» من أجل مواجهةٍ مع الموروث في شكله الإيديولوجي النضالي السائد. هذا ما دفع به إلى أن يعتبر غياب التاريخية العائق الأكبر أمام العقل الإسلامي التقليدي الذي يُعاد تنشيطه، اليوم، تحت ضغط المرحلة وغليانها في ظل الصراع المعروف مع الغرب. وهذا، أيضاً، ما جعله يتنطح لنقد العقل الغربي في شكله الاستشراقي الذي ما زال يتناسل أشكالاً من الاستعلاء ومن المركزية الواقعة تحت معاول التفكيك النقدي اليوم. لقد ظلت الأنسنة هاجسَ البروفيسور محمد أركون الأكبر. الأنسنة مفهومةً على أنها زمن ثقافي وحضاري يدشن مركزية الإنسان ويرمم الوعي البشري بعيداً عن تاريخ التنابذ والانشطار الذي ظلت تغذيه نزعات التمركز وإرادات الهيمنة. من هنا نفهم انكبابه على العمل من أجل التمكين لمحاولات الانفتاح على الآخر وبناء تاريخ تضامني بين البشر يُنهي تاريخ المركزيات المتآكلة. هذا كان يشترط الالتزام بالنقد الذي يستطيع الخروج من زمن «أنظمة الاستبعاد المتبادل» السائدة منذ قرون في صورة قلاع لاهوتية لا تُخترق كما كان يرى الراحل. هذا ما جعله يجابه الموروث الديني الإسلامي في صورته الأرثوذوكسية المهيمنة، مفككاً آلياته في إنتاج المعنى وفي بسط أحابيل الهيمنة الرمزية تمهيداً لفتحه على أكثر المساءلات جذريةً وضمن منظور أنتروبولوجي واسع يدمجه في السياق العام لتحرير الشرط البشري من أحادية النظر ومن هاجس المركزية والتعالي عن المشروطية الملازمة لكل ثقافة بشرية. براهيم أحمد: الاستشراف الجديد كثيراً ما نطرح هذا السؤال: ماذا أضاف محمد أركون؟ وما هو الشيء الذي قدمه للفكر العربي والإسلامي؟... نعترف بأن التساؤل لا يزال يحيرنا ويدهشنا في كل مرة، فقد كنا نعتقد أن كل الأعمال التي تركها المرحوم انطلاقاً من ملامح الفكر الإسلامي الكلاسيكي، إلى دراسات الفكر الإسلامي، والإسلام أمس وغداً، وكذا من اجل نقد للعقل الإسلامي، الإسلام أصالة وممارسة، الفكر الإسلامي: قراءة علمية - الإسلام: الأخلاق والسياسة - الفكر الإسلامي: نقد واجتهاد - العلمنة والدين: الإسلام، المسيحية، الغرب - من الاجتهاد إلى نقد العقل الإسلامي - من فيصل التفرقة إلى فصل المقال: أين هو الفكر- الإسلامي المعاصر؟ - الإسلام أوروبا الغرب، رهانات المعنى وإرادات الهيمنة. - نزعة الأنسنة في الفكر العربي - قضايا في نقد العقل الديني. كيف نفهم الإسلام اليوم؟- الفكر الأصولي واستحالة التأصيل. نحو تاريخ آخر للفكر الإسلامي- معارك من أجل الأنسنة في السياقات الإسلامية، وغيرها من الكتب...، هذه الأعمال كلها كافية للبرهنة على أهمية هذا الرجل ومشروعه الفلسفي وضرورته بالنسبة للعرب والمسلمين ككل. ونحن واثقين من أن هذه الأهمية، سوف تتجلى للناس أكثر فأكثر بمرور الأيام... كما يبدو لنا أن البروفيسور محمد أركون رحمة الله عليه قام بنوع من المراجعة والتقويم الإجماليين لأفكاره المنشورة منذ أربعين سنة، وأن الحصيلة كانت مزيداً من تعميق الجانب النقدي وتقويته. ولقد كان الأستاذ أكثر امتعاضاً أمام الرفض الذي يواجه به شخصياً في العالمين العربي والإسلامي، وأكثر يأساً من أن يستجيب الفكر العربي لضرورة التحول من المركزية اللاهوتية إلى مركزية إنسوية في ظل سيطرة الوثوقية بشكليها العقدي والأيديولوجي، وغياب الحس النقدي والقدرة على التجديد البناء. ومع ذلك لم يستسلم أركون للتشاؤم بل يعمق مفهومين كان طرحهما في السنوات الأخيرة وهما «العقل المنبثق» و «الهدم الفكري». يمكن الحديث حينئذ عن اتجاه نحو «التجذر» للمشروع الأركوني باعتبار المفهوم الأول أكثر شمولاً من «العقل الإسلامي»، يتسع ليشمل بالدرس العقل الحداثي أيضاً بعد أن سيطرت عليه الأداتية وابتعد من روح التنوير، وباعتبار المفهوم الثاني أكثر صراحة من مفهوم «النقد» في تأكيد القطيعة بين آليات المعرفة الحديثة وآليات المعرفة القديمة. لكن أركون يراجع ولا يتراجع، فلا يقر بأي تغيير لاتجاهاته في البحث ومصادرات أعماله ولا بخطأ ما ارتكبه مع بداية مشروعه. ومعلوم أن أركون قد تعرض منذ أحداث أيلول (سبتمبر) 2001 إلى حملات قاسية من الانتقادات ما زالت مستمرة إلى اليوم، ومن الغريب أنها صدرت من طرفين متناقضين. فهناك طرف أول اعتبر أن أعمال أركون النقدية قدمت الذريعة للغرب لمهاجمة العالم الإسلامي وثقافته، ولم يعد هذا النقد يصدر عن المحافظين وحدهم، فقد تبنته أيضاً شخصيات تحسب على الإصلاحية الإسلامية الجديدة. وهناك طرف ثان يمثله الاستشراق الجديد يعتبر أركون مسؤولاً من خلال تحويله وجهة الإسلاميات الكلاسيكية ذات المنهج الفيلولوجي عن تراجع البحوث التاريخية النقدية.