أحرص كثيراً على المرور بقناة "ناشيونال جيوغرافيك" بين وقت وآخر، لست مغرماً بها، لكنني أحرص على أن أُعرِّج عليها، وكأنها مقهى قديم، اعتدت مصادقة مقاعده وطاولاته، والجلوس بركن قصي هادئ بإحدى زواياه المطلة على الخارج، بينما أصدقائي أو أفراد عائلتي يتحلقون من حولي في أجواء يتخللها السمر والترفيه عن الذات وتجاذب أطراف الحديث، مع متعة احتساء أقداح الشاي والقهوة وبعض المعجنات والمكسرات والحلويات. بالحقيقة، عندما أتسمر أمام شاشة هذه الفضائية، يتملكني إحساس بأن عالم الحيوان، يمثل تجسيداً صريحاً وانعكاساً نقياً لخبايا البشر وطباع الإنسان الذي بفطرته الغريزية الاستكشافية الاستيطانية يستطيع تطويع أكثر المخلوقات شراسة وفتكاً لتصبح حيوانات سيرك أليفة، فكثيراً ما تتملكني الدهشة من طبيعة البرامج الوثائقية الرائعة التي تقدمها هذه الفضائية، وأسعد كثيراً عندما يتحلق من حولي أبنائي، وهم يطالعون ما يعرض فيها من برامج علمية وابتكارات واكتشافات وحوادث طيران وبرامج تصوير فوتوجرافي ومغامرات سفاري في وسط الأدغال والصحاري والبراري والأنهار، بين الفيلة والأسود والتماسيح، فأشعر كما لو أنني اكتشفت ما هي ميولهم العلمية والأدبية، وماذا سيكون كل منهم في المستقبل. على سبيل المثال، ابنتي الكبرى سندس، تنجذب كثيراً إلى برامج مختبرات الجرائم وأنتروبولوجيا الطب الشرعي، فتراها كأنها متخصصة، وهي تتحدث عن قدرة الطبيب الشرعي على تشخيص أسباب الوفاة، وكشف كثير من ألغاز الجرائم الغامضة، وقدرته على التخصص في مجال العلوم الطبية الجنائية، وامتلاكه نظرة فريدة في جمع كثير من الأدلة عن طريق رفات بشرية في بعض الحالات التي تعرضت فيها الجثث إلى الاحتراق والتحلل، فيتم عن طريق تلك الرفات تحديد الجنس والعمر وسبب الوفاة. كما تجدها سعيدة جداً وهي تتحدث عن البصمة الوراثية، التي تُعد إحدى أهم مزايا التقدم العلمي الذي شهدته البشرية ضمن مجال البحث الجنائي من أجل محاربة الجريمة، مؤكدة بثقة العارف الخبير إن كل ما يحتاج إليه المحققون لتحديد البصمة الوراثية هو العثور على دليل بشري في مكان الجريمة، مثل: قطرات العرق، الشعر واللعاب. أما ابني محمد، فهو مثلاً ينجذب كثيراً إلى البرامج الخاصة بالمشاريع الهندسية والإنشاءات العملاقة وبناء أحواض السفن، فترى السعادة تغمره وهو يتابع برامج متخصصة عن الآلات الهندسية الضخمة التي تتطلب عمليات إصلاح معقدة، كما تجده شديد التركيز وهو يتابع البرامج الهندسية التي تتحدث عن قصص بناء ناطحات السحاب وأهم الجسور البرية والبحرية وكيف يتم احتساب عمليات التكلفة البنائية الكمية والنوعية لسرعة الريح والمسافة التي سيختصرها الجسر وحجم الأزمة المرورية الخانقة التي سيساهم في علاجها وتخفيض ضغط حركة المركبات عن شوارع المدن الرئيسة. محمد ينجذب أيضاً إلى برامج الأوريغامي (Origami)، وهو الفن الياباني الخاص بطي الورق فتراه يبدع في تصميم المجسمات الورقية للمجسمات الهندسية من أبراج سكنية وسفن وطائرات وسيارات ومصابيح إضاءة ونوافير مياه وغيرها. في حين أن أخاه عبدالعزيز، ينجذب كثيراً إلى برامج عالم الحيوان، فتراه ينغمس في تفاصيل التفاصيل الخاصة بالأسماك وأنواعها، وكيف تهاجر بعضها في إرادة حديدية صلبة عكس التيار، فيظهر من كلامه أنه اكتسب من مشاهدة هذا الفيلم الثقة بالنفس، والإرادة الصلبة التي لا تهاب التحدي وترفض الهزيمة. كما تجذبه تحقيقات الكوارث الجوية، فأشعر أنه لم يستطع بعد أن يتعرف على ميوله الحقيقية، وما هو طموحه الذي يسعى إلى تحقيقه في المستقبل، لكن زوجتي التي تسعد بمشاهدة «أحاجي التاريخ» تهمس في أذني قائلة: أعتقد أن عبدالعزيز سيبدع في مجال التسويق وإدارة الأعمال. في الحقيقة، علينا أن نعترف بأن الشاشة العربية تفتقد إلى قناة متخصصة في هذا المجال، وأن «ناشيونال جيوغرافك أبوظبي» ساهمت في سد فراغ كبير في خريطة البث البرامجي العربي، واستطاعت أن تقدم تجربة مميزة للأسرة العربية، تسمح لأفراد الأسرة ولأصحاب المواهب أن يحصلوا على جرعة مركزة من البرامج العلمية الوثائقية، التي يتم تقديمها بقالب متطور من الدراما التشويقية. إن الرسالة الأشمل والأعم التي تقدمها هذه الفضائية، في جانبها البيئي، هي تحذيرها بلغة علمية وثائقية متخصصة تباشر العقل والقلب، من مخاطر الزحف العمراني على الشواطئ والبحار وما يتسبب به هذا الزحف من ضوضاء وتدمير للشواطئ وللبيئة البحرية بشكل عام، وما يسببه أيضاً من ضرر بالغ بالغابات ومجاري الأنهار وانقراض كثير من فصائل الطيور المهاجرة، والفصائل البحرية والشعُب المرجانية، وتضرر كثير من الكائنات والنباتات المعمرة التي يشكل فقدها خسارة بشرية وبيئية باهظة، ربما لا ندرك في اللحظة الراهنة فداحة وجسامة خسارتها.