إذا كانت «العدسة الفضولية» هي دائماً موضع انتقاد وشكوى دائمين لدى نجوم السينما والمشاهير وبعض الساسة، إذ يستخدم هذا التعبير في سياق سلبي يفهم منه أن العدسة قد تخطت حدود اللباقة وبدأت بالتلصص على ما ينبغي أن يكون بعيداً من الشاشات، فإن هذه «العدسة الفضولية» الجريئة ذاتها تثير، في كثير من الأحيان، الدهشة والإعجاب، وخصوصاً إذا ما تعلق الأمر ببرامج الطبيعة والحيوانات. والحقيقة أن ما تقدمه قناة «ناشيونال جيوغرافيك أبو ظبي» من برامج وأفلام وثائقية لا ينتزع الإعجاب فحسب، بل يصنع، مجدداً، الإبهار البصري الذي كان يبدو أن صلاحيته انتهت في قاموس التلفزة! ويرسم علامات الحيرة على وجه المتفرج الذي لا بد وأن يطرح أسئلة حول كيفية التقاط الكاميرا هذه الصور، وتلك المشاهد المختلفة عما اعتاد رؤيته على غالبية القنوات العربية. في إحدى حلقات البرنامج الوثائقي «انتصار الحياة» وتتحدث عن غريزة البقاء لدى الحيوانات وصراعها المستمر لتفادي الانقراض الذي تعرض له بعض الكائنات الحية، نعثر على مشاهد يصعب هندستها وترتيبها على هذا النحو المدهش. تلتقط الكاميرا بوضوح تام، وبلقطات مقربة، ومن زوايا بالغة الصعوبة، لحظة الانقضاض على الفريسة. تصور الكاميرا مختلف مراحل هذا الافتراس من لحظة الترصد إلى الاستعداد إلى المطاردة وصولاً إلى لحظة الانتصار، وكأن هذه الكائنات قد تواطأت، من حيث لا تعلم، مع العدسة كي تأتي المشاهد بهذه الحساسية الفنية العالية... وهناك أمثلة كثيرة أخرى: كيف يظهر التمساح من مكان خفي لينقض على فريسته؟ وكيف يفتح الدب شدقيه لاستقبال سمكة تتقافز في النهر؟ وكيف يتهادى الطير من الأعالي ليحظى بغزالة شاردة في السهول؟ وكيف تهجم الأفعى، ويهجم النمور والأسود..؟ وثمة دائماً أمنية خفية تنتاب المشاهد بأن تنجو الفريسة الخائفة. لكن تلك «شريعة الغاب» التي لا يمكن تعديل قوانينها، ليظل السؤال: كيف تمكنت الكاميرا من توثيق تلك اللحظات النادرة، وكيف استطاعت الذهاب إلى تلك الأدغال والغابات والبراري وأعماق البحار حتى عادت بمثل هذه المشاهد التي تفوق في جماليتها وتقنيتها الكثير من المشاهد المصطنعة؟ فضول العدسة، هنا، هو فضول مشروع نحو معرفة المجهول، وسعي إلى اصطياد صور غير مألوفة، وليس سراً أن مثل هذه البرامج تنتجها قنوات غريبة وتصرف عليها الملايين بغرض فك أسرار الطبيعة المعقدة، أما فضول العدسة في المفهوم العربي الشائع، فيتمثل في نشر الفضائح، وكأن بث «صور نادرة»، بحسب التوصيف الرائج، لهذه الفنانة، أو تلك الراقصة أو ذلك السياسي، يعد نصراً تلفزيونياً كبيراً!، والحال أن التميز لا يكمن في نشر الإشاعات الرخيصة، بل في ارتياد المجهول، واقتحام البيئة البكر التي تنطوي على أسرار وألغاز كبرى كما تفعل «ناشيونال جيوغرافيك»، تمثيلاً لا حصراً.