ما جدوى الأدب؟ أو ما الفائدة المرجوة من الأدب؟ هل الأدب مفيد حقاً من الناحية «العملية» الصرفة؟ هل نستطيع أن نعيش دون قراءة الأدب والاستمتاع به والانغماس فيه والإبحار في عبابه الزاخر؟ أسئلة ليست بالجديدة بالطبع، وربما عدها بعض القراء فائضة عن الحاجة، وغير مفيدة بحد ذاتها. غير أن ذلك لا يمنع من طرحها والتأمل فيها. ترى هل للأدب نفس التأثير والحضور الذي للصناعات المختلفة، القديم منها والجديد، والتقنيات الحديثة، التي لا تكف عن التجدد والتكاثر، في حياتنا اليومية؟ ستبدو المقارنة ظالمة وعلى قدر كبير من الإجحاف في حق الأدب بكل تأكيد. المقارنة ها هنا ليست موضوعية بلا ريب لأنها تقارن ما بين «أدوات» قد لا تستقيم حياتنا (بل إنها لا تستقيم، سواء أقررنا بذلك أم لم نفعل) دونها، وبين ما هو في ذاته نقيض لفكرة الأداة أو الأداتية بمعناها المادي، بل هو متناقض مع فكرة المادة (إن شئنا أن نفلسف الأمر قليلاً). كم نسبة من يستخدمون السيارات في تنقلهم أو يشاهدون التلفاز يومياً أو أجهزة الهاتف النقالة بالمقارنة بمن يقرأون النصوص الأدبية بشكل دائم؟ لسنا بحاجة لأن نجري استبياناً للآراء لأن الأجابة معروفة سلفاً. وعلى الرغم من كل ما سبق ذكره، مما قد يبدو على قدر كبير من التشاؤم لواقع الأدب في عالمنا المعاصر، إلا أن الثقافات المختلفة لم تخل من بعض الرؤى والآراء التي تولي للأدب أو تلصق به جوانب نفعية عملية تنعكس على حياة المتعاطين له بشكل ملموس، ومن ذلك ما جاء في التراث العربي القديم من الحث على تعليم الشعر وروايته لأنه وسيلة لاكتساب اللغة وعذوبة اللسان، فضلاً عما فيه (أو في جانب كبير منه) من الحض على الخصال الحميدة من كرم ومروءة وسوى ذلك من الصفات المحمودة. وحين ننتقل إلى ثقافتنا المعاصرة نجد أن ناقداً معروفاً هو آي. أيه. ريتشاردز قبل قرابة القرن من الزمن يقول إن قراءة الشعر تحسن من ردات الفعل والتنظيم في دماغ الإنسان. كما لا ننسى ما صار يجري الحديث عنه كثيراً فيما يتصل بما بات يعرف بالاستشفاء بالأدب عموماً، والشعر على وجه الخصوص. وهناك أيضًا ما يعرف ب «الببليوثيرابي»، أو التداوي بالقراءة بمفهومها الشامل. إذاً، فالأدب لا يخلو من جانب نفعي ملموس، وإن بدرجة أقل وضوحاً وتأثيراً من غيره من الأشياء المادية. ولكن السؤال المهم هنا هو: لماذا ننساق وراء الجانب النفعي للأدب، ونخضع للمنطق المادي الذي صبغ عصرنا بصبغته؟ ألا يستحق الأدب، أو استمتاعنا به، أن يكون غاية في حد ذاته؟ ألسنا بحاجة إليه للرجوع إلى ذواتنا والتأمل في أعماقنا واستطلاع قارات أنفسنا المجهولة؟ هل كان فرانز كافكا مبالغًا حين شبه الأدب بالمعول الذي يثقب بحيرة الجليد في ذواتنا؟ هل كان أودن محقاً حين قال a poem makes nothing happen، أو القصيدة لا تجعل شيئاً يحدث؟ ماذا عن الأثر الذي تحدثه في نفس قارئها؟ أليس ذلك شيئاً مهماً؟ ما لا ينبغي أن يداخله الشك هو أن الأدب لا يتواءم مع منطق النفعية الضيق ولا يمكن أن يخضع له، وهو أطول ديمومة وخلوداً بما لا يقاس من كل ما يشغل فضاء الإنسان المحدود من اختراعات وأدوات مادية تملأ عالمه بعد حين لتندثر بعد ذلك وتصبح نسياً منسياً. سيبقى الأدب كما تقول دانا ستيفنز في مقالة لها «السجل الذي نحتفظ به للحوارات التي تدور بيننا نحن الأحياء على وجه الأرض وبين كل من جاؤوا قبلنا وسيأتون بعدنا». ولن يكف الأدب عن كونه « توأم الحياة الضال وقرينها الشرير وبطانتها المخملية». وإذا ما شئنا أن نستعير مقولة العرب الشهيرة «الشعر ديوان العرب»، ونوسع من آفاقها ومداها قليلاً فيمكننا أن نقول إن الأدب هو ديوان الإنسانية، الذي يحتفظ بتفاصيل المعرفة البشرية المتراكمة، وهو كذلك ألبوم تجاربها المتضاربة وأشواقها المشبوية ومشاعرها المضطرمة وأفراحها الشحيحة.