أنا رجل مهاجر منذ نصف قرن، خرجت مقلداً إبراهيم عليه السلام، أو هكذا أزعم. هو خرج من أرض النمرود العراق حالياً، بعد حريق هائل خرج منه برداً وسلاماً، وقال إني مهاجر إلى ربي. وأنا أيضاً خرجت من دار البعث إلى يوم البعث. وأظن أن مصير ملايين السوريين سيكون مثل البلاشفة البيض بعد الثورة الشيوعية؛ فلا تكتحل أعينهم برؤى وطن لم يبق وطناً، بل سجناً كبيراً، يضم مسكيناً ويتيماً أسيراً. إن إبراهيم عليه السلام شخصية مثيرة. وسرعة بديهيته وأجوبته التي تفلج. تأملوا الفقرة التي قالها لقومه من عبدة الأصنام الحجرية والبشرية، أن من فعل ما فعل هو كبير الأصنام! وهو حجر لا يقوى على الحركة محركاً بذلك عقولهم. في البداية انتبهوا للمغزى، وأن إبراهيم محق، ولكن سرعان ما نكسوا على رؤوسهم وركبتهم الحماقة فقرروا حرقه فأنجاه الله من النار. ثم لقاؤه مع الملك وهو يدعي أن الحياة والموت بيده. قيل إنه أخرج محكومين بالإعدام فقتل الأول وعفا عن الثاني. ولو أن إبراهيم بدأ في مجادلته لما وصل إلى نتيجة، ولكنه دخل حلبة النقاش من زاوية مختلفة، وجه فيها إلى الملك العنيد بعناد الحمار الضربة القاضية. قال حسناً أنت تقول هذا ما رأيك طالما كنت متحكماً في الكون وأسراره، والموت والحياة، أن تخرج لنا الشمس من المغرب، كما يخرجها ربي من المشرق؟ لم يكن ثمة جواب؟ فقد ألجم وخرس، ويعبر القرآن عن هذه الصدمة العقلية بكلمة (بهت). إن الكلمة تحمل (حزمة) من المعاني بين التوقف والدهشة وانعقاد اللسان والإحجام ومحاولة الرد بدون فائدة والشلل العقلي. كل هذا وأكثر محشورة في كلمة واحدة (البهت) وهذه هي قوة القرآن في استخدام المرادفات. فكان يمكن أن يقول سكت، أو لم يحر جواباً، أو تردد، أو حاول الإجابة؟ لا .. كلمة (بهت) تجمع كل هذا وأكثر في حالة نفسية فردية ووضع عقلي يتوقف فيه الدماغ عن الحركة. ومنه اعتبر القرآن أن إبراهيم أوتي الحجة فرفعه الله بها. أتمنى لنفسي جداً أن أحظى بهذه الميزة من العفوية، والبداهة، وسرعة الإجابة، مع قوة الحجة. أو بتعبير القرآن وتمت كلمة ربك صدقاً وعدلاً. نحن نعلم أيضاً عن رحلته حين عرج على فلسطين حيث بحيرة طبرية، أدنى الأرض وأملحها وأحفلها بقصة معبرة، عن بركان جعل عاليها سافلها، مطهراً الأرض من قوم انقلب عندهم (سلم القيم) فأخرجوا الصالحين تحت ذريعة إنهم قوم يتطهرون. ثم تابع رحلته إلى أرض الفراعنة؛ فكادت سارة أن تكون من نصيب الجبار ويقتل إبراهيم لولا قول إبراهيم إنها أخته. ثم انتهت به الرحلة إلى أعظم هدف في بناء أول بيت للناس يرفع فيه القواعد مع إسماعيل ربنا تقبل منا. رمزاً للسلام العالمي فلا يقتتل فيه الناس قط. ولا نعرف أين انتهى به المطاف أخيراً. ولكن وقع تحت يدي دراسة في مجلة (PM) الألمانية عن كامل الرحلة وزمنها وتنقلات هذا الرجل النبي الفذ. وتمنيت من أعماقي لو أن تفسيراً جديداً للقرآن يعتمد الأدوات المعرفية الجديدة مع الدراسات التاريخية المقارنة؛ فنبصر القرآن بضوء جديد ومعنى النبوات في التاريخ.