يقول مؤلف كتاب علم الأخلاق الفيلسوف الهولندي باروخ سبنيوزا: (انتقاصك أي شخص هو اعترافك بالنقص، فلا تنتقص من أحد وانت تثق أن بوسعك التغلب عليه) نواجه في حياتنا - الحوارية - كثيرا ممن يرى في نفسه كل الثقه والقدرة والبطش الشديد على أن يغلب الآخرين في أي حوار يخوضه معهم، ومع ذلك تجده ينتقص من حجج الآخرين أو يسخر منها، طبعاً على إفتراض انه لم يترافع من الخوض في النقاش معهم من الأصل، دائما مايتغنى هذا الإنسان على انه صاحب الحجه الأقوى وأن جميع من سواه ليسوا من اصحاب الحجه التي تليق بمقامه الرفيع الذي يستوي فيه على عرش الحوار، فلا أعلم كيف استطاع هؤلاء أن يجمعوا بين ثقتهم بالفوز على الآخرين وترافعهم عن الحوار معهم في نفس الوقت؟ هؤلاء بكل بساطه جسدوا لنا ما معنى "دكتاتورية الحوار" التي تكمن حين يصادر الشخص ما لدى الآخرين من علم ويحكم عليه بالبطلان المسبق، بزعم ان أدلته وحجته لم يخلق مثلها في البلاد. الحُجه في معناها اللغوي هي كل مايراه الشخص صالحاً لأن يُحاج به الآخرين، أي أن معتقد أي شخص وإيمانياته وقناعاته ورأيه وعلمه وفكره وجميع مايراه صالحاً للحوار هو حُجة بالنسبه له ويجب ان تكون حُجته مكفوله له دون انتقاص، فكم هو جميل حين يتم احترام الشخصيه الإعتباريه للمناقش وإعطائها كامل الحريه في التعبير عما يراه صالحاً للحوار نتيجة لقناعته بفكره معينه مهما كانت ضعيفه في نظرنا أو قويه المهم أن يطوله منا مايستحق أن يكفل للطرف الآخر حقه في أن يكون نداً لك مهما بلغت من العلم عتيا. يقول الله سبحانه: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رِبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ)، صوره رائعه من القرآن الكريم للشكل الذي يجب أن يكون عليه الحوار بين الطرفين، سأتطرق إلى أمر لفت نظري فعلاً في هذه الآية، هو أن الله سبحانه ذكر لنا الملك النمرود على انه "حَآجَّ" إبراهيم في ربه ولم يذكره على انه سخر من رب إبراهيم أو جادل بحماقة في رب ابراهيم أو أنه سفيه غير مؤهل للحوار بل ولم يتعرض النمرود لأي انتقاص لكونه أحد أطراف هذا الحوار، وهنا يتجلى الرقي القرآني الذي حظي الملك النمرود فيه على كامل الاحترام فيما يراه ويعتقده ووصفه لنا القرآن على أنه "صاحب حجة" على الرغم أننا جميعاً نعلم أن حجة النمرود كانت ضعيفه جداً بل ومثيرة للسخرية ولا تصدر الا من السفهاء حين يدّعي أي شخص قدرته على إحياء الموتى، أو إدعاء الألوهية، الا ان الله لم ينكر عليه ما كان يراه النمرود في نظره حجة صالحة للحوار، فالترافع واحتقار ما لدى الآخرين من رأي وقناعات وتجريدهم من "الحُجة" مهما كانت ضعيفة او قوية او مثيرة للسخرية هو سلوك في نظري منزوع الاحترام، أما دحر الحجةه بالحجة من دون فوقية هو بالتأكيد أمر في غاية الخُلق.. اللهم أجعل خُلقنا القرآن.