وصف الله تعالى الإنسان أنه كثيرُ الجدل والخصومة والمعارضة، للحق بالباطل، ولليقين بالظنون، وللدليل الصحيح بالدليل السقيم، إلا من رحم الله وهدى، قال تعالى: {وَكَانَ الْإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً}. فالشياطين تُوحي لأوليائها، والشهوة والهوى تُزين لأهلها، أن يجادلوا بالباطل الناس، ويزينوا لهم الحرام، ويدعونهم إلى الضلال. وقد زين الشيطان لقوم- بعضٌ لا علم ولا دين، وبعض مغرور مفتون- أن يقولوا على الله، وفي دين الله، بغير علم ولا دليل صحيح. وظنوا أنهم يكفيهم أن يكون لهم حجة ورأي آخر، حتى يجب احترامه وسماعه، بل تقديمه وقبوله، وإن صادم أصول الدين وقواعده، وخالف ما عليه أهل العلم والتقوى. حتى سمعنا من يجهر ويقول بصوت عالٍ، بصحة دين أهل الكتاب ونجاتهم من النار، وسلامة إسلام من دعا وذبح للصالحين والأولياء، وأن الخلاف مع من كفر الصحابة ولعنهم خلاف في الفروع مقبول، وأن الجهاد حرام لا يجوز وإن غُزيت بلاد المسلمين، وأن المرأة مظلومة إن أطاعت الله ورسوله، وأن الكافر هو المتحضر المسالم، والمسلم هو المتخلف المحارب.. في قائمة من الضلالات طويلة. وغاب عنهم جهلاً أو تجاهلاً، أن الخلاف له أصول وضوابط وحدود، ومخالفة الحق وقوع في الخطأ حتماً، والمخالف حيناً له أجر واحد لاجتهاده وصلاح قصده، إذا خالف فيما يسوغ فيه الاجتهاد، وكان من أهل الاجتهاد، وحيناً يكون معذوراً إذا اتبع وقلد من يجوز اتباعه وتقليده من أهل العلم والفتوى. والمخالف إذا رد الأدلة الصحيحة وقابلها بالضعيفة والتقليد، أو قلد مَن لا يصح تقليده، أو مَن وافق هواه، وقع في الإثم والبدعة، بل ربما ساقه خلافه إلى الكفر والضلال. الحجج الباطلة لا تغني من الحق شيئاً، ولا تنفع صاحبها ولا من اتبعه وارتضاها. فهذا أبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه، أمره مولاه أن يسجد لآدم، الذي خلقه من طين بيديه، فجادل وخاصم، قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين، هذه حجته، يستر بها كبره واستكباره، وعصيانه وظلمه، فحجته داحضة مردودة، فغضب الله عليه ولعنه وطرده وله عذاب أليم. نمرودُ الملكُ حاجَّ إبراهيم عليه السلام في وجود ربه، حمله طغيانه وعلوه وغروره، أن آتاه الله الملك سنين طويلة أن يقول ليس إلهٌ غيري، فقال له إبراهيم ربي هو الذي يحيي ويميت، فأتى النمرود برجلين استحقا القتل، فأمر بقتل أحدهما، وعفا عن الآخر، ثم قال أنا أُحيي وأميت، حجة باهتة ساقطة، ومكابرة للحق بينة، فسايره إبراهيم الحليم ليقيم كلَّ الحجة عليه، ويزيل باطله من نفوس اغترت به، فقال له إن الذي يحيي ويميت هو من يتصرف في الكون والخلق، وهو الذي يأتي بالشمس من المشرق، فأتِ بها يا نمرود من المغرب، فبهت الذي كفر وانقطع. فرعون مصر جاءه موسى عليه السلام بالآيات البينات، والبراهين القاطعات، والحجج الواضحات، فحاد وراغ إلى الاحتجاج بقوته وملكه، وسلطانه وجنده، على إلوهيته وصدقه، قال تعالى:{وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ}، فاستخف بعقول قومه فأطاعوه، لأنهم أهل سوء وفسق، هواهم مع فرعون وما يشتهون لا مع الحق والدليل، فأذهب الله حجته وملكه، وأغرقه هو وجنده. جادل قومُ نوح نوحاً، حجتهم التي قابلوا بها ما يدعوهم إليه من الحق والتوحيد، أنه بشرٌ مثلهم، وأتباعه الفقراء والضعفاء، وهم أهل الرأي والعقل والمال، قال تعالى:{فَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قِوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَراً مِّثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ}، فما زال نوح يدعوهم ألف سنة إلا خمسين عاماً ويجادلهم بالتي هي أحسن لعلهم يتذكرون ويعقلون، حتى قالوا ما أخبرنا الله {قَالُواْ يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتَنِا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ}، حينئذ دعا نوح ربه أني مغلوب فانتصر، فجاءهم العذاب، ماء من السماء انهمر، وماء من الأرض تفجر، وأصبح لا عاصم من عذاب الله وأمره إلا من رحم. جادلت عادٌ رسولها هوداً عليه السلام، جادلته في أصنام لا تنفع ولا تضر، ولا تخلق ولا ترزق، أصنام صورها من قبلُ آباؤهم ثم عبدوها، فهم بهم يقتدون، ولآثارهم يقتفون، قال هودٌ لهم {أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤكُم مَّا نَزَّلَ اللّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ}. وجادلت ثمود صالحاً عليه السلام، والناقة آية بينة يبصرونها، قالوا:{أَتَنْهَانَا أَن نَّعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ}. وتبجحت مدين على شعيب عليه السلام وسخرت منه {قَالُواْ يَا شُعَيْبُ أَصَلاَتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاء إِنَّكَ لَأَنتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ}. بل بلغت المكابرة بقوم لوط أن عابوا الطهر والفضيلة، قال تعالى: {وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ أَخْرِجُوهُم مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ}. جادلت اليهود موسى عليه السلام، وهم قوم بهت، قالوا: اجعل لنا إلاهاً كما للمشركين آلهة، اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون، إن البقر تشابه علينا، لن نبرح على العجل عاكفين حتى يرجع موسى، احتالوا فصادوا في السبت، وأذابوا الشحم وباعوه. وجادلت النصارى في عيسى عليه السلام، فقالوا المسيح هو الله، وقالوا المسيح ابن الله، فكفروا بما قالوا، قال تعالى يرد حجتهم {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ}. وجادل قومٌ بالقدر، يحتجون به على شركهم وفسقهم، {لَوْ شَاء اللّهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ}، فليحتجوا به ويقعدوا عن بذل الأسباب لتحصيل المال والرزق، وتحقيق المصالح ودفع المفاسد عن النفس والولد، إن كانوا صادقين. وجادل الدهريون {أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنتُمْ تُرَاباً وَعِظَاماً أَنَّكُم مُّخْرَجُونَ هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ}، وهم ينظرون أنفسهم وقد صاروا بشراً ولم يكونوا من قبل شيئاً يُذكر، ويشاهدن الأرض الميتة تحيا بالماء وتنبت من كل زوج بهيج. كل هؤلاء لهم حجج، يحسبونها تغنيهم عن اتباع الحق، وتنفعهم في دفع خزي الدنيا وعذاب الآخرة، فكانت كسراب ماء لا تروي، أو كظلمات في بحر لا تُرى، لأنها بُنيت على الباطل والكبر والشهوة والهوى، قال تعالى: {وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ}. فواجب على الناصح لنفسه أن يحذر الحجة الباطلة أن يدفع بها الحق ويركن إليها، وأن يتعلم العلم المبني على الكتاب والسنة، وما عليه السلف الصالح، وأن لا يأخذ دينه إلا من أهل العلم الصحيح والدين المتين. أسأل الله أن يثبتنا على دينه والصراط المستقيم، وأن يدفع عنا شر المفسدين، الذين يفسدون الدين، والذين يعتدون ويقتلون. وصلى الله وسلم على رسوله وآله وصحبه أجمعين. خطيب جامع الإمام محمد بن عبد الوهاب