نحن الآن من جديد في موسم الحج الأكبر (وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ). أعتقد جازماً أنه ليس من مدينة على وجه الأرض إلا ويأتي إليها حاج من كل فج عميق على ضامر من طائرات البوينج التي تسرع أكثر من طير الفرقاط. العبرة ليست بالعدد والنوع، فجماعة المورمون وجماعة التبليغ في بنجلاديش يجتمعون، وعلى نهر الجانج الهندوس يغتسلون، والنصارى عند جبل الجلجثة الصليب بهتانا يحملون. ربما بلغ العدد أكثر من حجاج بيت الله الحرام البالغين مليونين وقد يزيدون في المستقبل. لكن لا المورمون، ولا جماعة شهود يهوه، ولا البروتستانت، ولا الكاثوليك عند الفاتيكان والصرب في أمسل فيلد في كوسوفا، ولا حجاج نهر الجانج، يحملون هذه التعددية المدهشة؛ فهنا في الحج ترى (الناس) بتعبير القرآن أولاد آدم. من جزيرة سخالين وكمشتكا، حتى سفوح الإنديز وجورجيا وكشمير ومرتفعات هيمالايا والألب. ألوان شتى، وعيون مقوسة، وشعر أسود سادل، وآخر أحمر مبرقش مجعد. في القرآن تترافق دوماً كلمة الحج بالناس (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا). إنه اجتماع (أممي إنساني) وهذه هي أول مزية. والثانية اللباس الأبيض شاهداً على معنى السلام. إنه يذكرني بكتاب الفيلسوف إيمانويل كانط (نحو السلام الأبدي) (Zum ewigen Frieden). ثم تأتي الأضحية وهي من إبراهيم أبي الأنبياء، تلك الشخصية الجذابة التي دخلت النار وخرجت برداً وسلاماً، وحاج النمرود ففلجه فبُهت، وقال إني مهاجر إلى ربي كما فعل ملايين السوريين هرباً من الجبار. إنها الترميز الأعظم عن التوقف عن التضحية بالإنسان على أي شكل وطريقة. إنه إعلان مبطن غير مباشر لموت مؤسسة الحرب التي تطحن الشباب في بطنها بأشد من معصرة الزيتون وطحن الحبوب. لم يفهم البشر هذه الرسالة حتى الآن، فمازالوا يقتتلون والسفاح الطاغية السوري يظن أنه بقتل الناس سيمكن من حكم فرعون وهامان وقارون حرامي مخلوف. كذلك تأتي تلك الدورات السباعية في الطواف تؤكد المعنى الوجودي لسحر (الرقم سبعة) من مدارات الإلكترونات، حتى سبع سموات طباقاً، ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن. ثم نرى الأشهر الحرم، وفي الحج لا صيد، بل يأتون شعثاً غبراً تلوحهم الشمس كأنه يوم الحشر. إن خيام منى حركت مخيلة الألمان وهي تستعرض المدن، فإذا هي مدينة. إنه السلام الكامل في المظهر وعدم الجدال والرفث أو قتل الطير، تأملوا حمام المسجد الحرام وتكوّمه بدون خوف. إنه السلام العالمي بعد جاهلية وحمية تحاول ما أمكن أن تُبقي لها أقداماً في أرض بوار.