عانت المملكة منذ تسعينيات القرن المنصرم من الأعمال الإرهابية الناتجة من العقل التطرفي، والفرز التعصبي، وما كان ذلك إلا من خلال سيطرة فكرٍ واحد على المفاصل المهمة في الدولة أنتج هذا النوع من التطرف ورفض الآخر. التاريخ يتناسل من رحم الفكر الذي تم غرسه خلال البيئة التعليمية، ونحن اليوم أمام مفترق طريق لمثل هذا التناسل، إما أن يكون هناك قتل لتلك الأجنة التي غرست في عقول أبنائنا وكانت تربيتهم المدرسية مبنية على هذا الفكر، أو أننا سنظل نعاني من استمرار انخراط الشباب في هذه الحركات التطرفية. ما يحدث اليوم هو مواجهة فكرية لهذه العقول الظلامية التي تربت بيننا ففرخت مقاتلين موزعين على أنحاء العالم. وجميعهم منتمون إلى ذات المدرسة المتطرفة من أقصى الشرق إلى الغرب، ومن خلال العودة بالذاكرة إلى أبنائنا الذين كانوا في الشيشان وأفغانستان واليوم في العراق وسوريا، ولا تفكير لديهم إلا القتل والانصياع لقيادات يعتقدون أنها منتمية للإسلام، لكنهم أبعد ما يكونون عنه، بل ينتمون إلى أجهزة استخباراتية قامت بصناعتهم وزرعتهم كقنابل موقوتة في تلك البلدان، وتحركهم كالدمى وتفخخهم وقتما تريد لتأجيج مناطق الصراع وعدم الاستقرار بحجة قتل الكافر. أتاحت المملكة لشخصيات تنتمي إلى تيارات إسلامية، العيش الكريم بين أراضيها، معتقدة أنها تحمي المسلمين حينها، لكن بعض هؤلاء استغلوا طيبة السعوديين في التعامل معهم وقاموا ببث أفكارهم المنتهية بالتطرف والعنصرية في المجتمع السعودي، ومنهم بعض الشخصيات المنتمية لحركة الإخوان المسلمين، الذين تغلغلوا باسم الدين في مفاصل الدولة الأساسية من خلال (التعليم، الجمعيات الخيرية، المراكز الإسلامية)، وبدأوا يبثون فكرهم طويل الأمد حتى بدأت المعاناة تبرز مطلع الثمانينيات، أي بعد أن تمكنوا من مفاصل التعليم التي دخلوها في ستينيات القرن المنصرم، وهم يبثون رؤيتهم المتطرفة في فكر الشباب الذين نشأوا في المدارس المسيطر عليها من قِبلهم، وبرزت مثل هذه الصراعات بشكل واضح بين التيارات الدينية والنخب الثقافية حينها، وتوالى إصدار الكتب وأشرطة الكاسيت التي تتهم المثقفين بالزندقة وتحرض المجتمع عليهم من خلال المنابر التي مُنحت لهم في الجامعات والمراكز الدينية، كما كانوا يضربون بيد من حديد على كل من يتصدى لفكرهم الظلامي. كثيرٌ من البحوث والدراسات والكتب التي صدرت مؤخراً تحاول تسليط الضوء على هذه «الحركة» التي تغلغلت وتسببت اليوم في صدور قوانين صارمة للمنتمين لهذا الفكر. اليوم ونحن في مرحلة المراجعة علينا التركيز على المحاور الأساسية التي قاموا باختطافها (التعليم/ المنابر/ المؤسسات الدينية والثقافية)، وكذلك مواجهته أولاً في التعليم من خلال ما يبث في المناهج، وطريقة تعاطي المعلمين معها، وكيفية تدريس الأطفال والمراهقين على قبول الآخر، وعدم زرع الفتنة (العنصرية، الطائفية) في هذه المؤسسة التي هي اللبنة الأولى لصناعة الإنسان، وإتاحة حرية التعبير، وعودة النوادي الطلابية، والسماح بتلاقح الأفكار بعيداً عن أي رؤية متطرفة، ومحاسبة منتهكي حرية التعبير، والمستغلين لتلك المنابر لرؤيتهم الشخصية. إن مواجهة التطرف تحتاج إلى هامش ثقافي شامل لكافة نواحي الإبداع، وكذلك إعادة التفكير الحقيقي في كيفية بناء عقول تواجه المستقبل وتستطيع رفض ما يدعوها للتفكير فقط في وعود المتطرفين، وهذا ما نلاحظه بأنه ما زال مستمراً حتى اليوم، وأن كثيراً ممن يعتلون المنابر هم ذات الدعاة السابقين، ولكن بأقنعة جديدة. نحن اليوم بحاجة ماسة لمراجعة أصحاب القرار لجميع المؤسسات التي أنجبت عقولاً بعيدة عن مفهوم المواطنة، وعلينا ترسيخ هذا المفهوم من شرق البلاد إلى غربها ومن شمالها إلى جنوبها.