بيان وزارة الداخلية الذي نشرته وكالة الأنباء السعودية في نهاية الأسبوع الماضي عن إلقاء القبض على خمسة متورطين في نشاطات تروج للدعايات المضللة عبر شبكة الانترنت للتغرير بالأجيال الشابة والتلاعب بعواطفها وتسهيل خروجها لمواقع الفتن.. يستدعي المزيد من الأسئلة، والمزيد من البحث عن مصادر الخلل، الذي ظل يتناسل على واجهة التطرف وبث أفكار العنف والترويج لها تحت شعار الجهاد المزيف. حققت السلطات الأمنية نجاحات كبيرة في مقاومة خلايا الإرهاب وعناصر التطرف، وتحاول أن تحاصر بقاياه عبر ملاحقة عناصر أخرى تجد ضالتها في شبكة الانترنت، الوسيلة المثلى لترويج دعوتها والبحث عن مجندين أو ضحايا جدد. وليس من المستغرب أن تظل هذه التداعيات تتحرك في مواجهة ومحاصرة الفكر المتطرف وتفكيك تنظيماته. يُحسب للسلطات الأمنية جهدها الكبير في حماية هذا المجتمع من عناصر التفتيت والإضعاف والفكر المتطرف، غير ملاحقة ذيول ظاهرة - لن يكتب لها الحياة طويلا - لكنها تقاوم الحصار والملاحقة عبر واجهات الإعلام البديل. هذه الحادثة وما سبقها من حديث طويل عن الفكر المتطرف وترويج أفكار تنظيم القاعدة التي لم يفلح أي تنظيم آخر في إيذاء المسلمين وشق كياناتهم وتعطيل قواهم في كل مكان، كما فعلت يستدعي أسئلة التحصين بموازاة جهود الملاحقة والمتابعة والكشف. ذروة تقنية الاتصال تحققت للعالم عبر شبكة الانترنت، تلك الواجهة التي صنعت مشهدا آخر للعالم وللمعرفة وللتواصل ولتدفق المعلومات.. لكنها أيضا اتسمت بسهولة استخدامها لاستعادة واجهات الترويج لأفكار أو ترتيب معطيات وفق أجندة لا تمت لا للتفكير العلمي بصلة، ولا لمشهد التقدم التقني بعلاقة، ولا للعقليات التي أنتجتها برابط. المستهدفون دائما من تلك النشاطات التحريضية على أعمال العنف والترويج لأفكار القاعدة أو سواها تحت علم الجهاد المزيف، هم جيل من الشباب.. الخامة المناسبة للاستقطاب، وهي فئة تتوقف مدركاتها الذهنية والثقافية على تخوم ثقافة مجتمع. وإذا لم تتوفر عناصر مهمة لحمايتها وحماية المجتمع من آثار تغلل فكر التطرف في عقلها.. فستكون هدف الاستقطاب على الدوام، وستكون الآثار فادحة ومؤذية ما لم تتبلور مشروعات قادرة على سحب تلك العناصر الشابة لعالم رحب، عبر مفاهيم لا تكشف فقط ملامح مشروع مدمر، ولكن تستعيد عقلا علميا، وتفكيرا خلاقا، وتذوقا معرفيا لواجهة العلاقة الجدلية بين القبول والرفض والتفكير بالمعطيات وعناصر الاستهداف. تشدد القيادة بكل مستوياتها على أهمية مواجهة الفكر المتطرف الذي يغذي عناصر الإرهاب ويروج لأفكار تنظيم القاعدة وسواه بالفكر المستنير، وإبراز ملامح الإسلام المختطف من قبل جماعات العنف والتطرف. هناك إدراك كبير أن مواجهة الفكر المتطرف الذي تتعدد أشكاله ومستوياته، إنما خطورته في كونه بيئة مناسبة لإنتاج عناصر تتحول من اعتناق فكر متطرف إلى عناصر ترويج وربما تنظيم يعيد استهلاكنا في معركة طويلة وشاقة ومعطلة. مواجهة الفكر المتطرف لن يتوقف على حدود إبراز تعاليم الإسلام الحسنة والعظيمة والذي جاء رحمة للعالمين. أو التحذير فقط من الوقوع في شرك العنف والتطرف والإرهاب وآثاره المدمرة على حياة الإنسان والمجتمع. تحصين المجتمع من عناصر الترويج وتغذية واستعادة أفكار التطرف والعنف وسواها يقوم أيضا على تحصين الذات الشابة من وقوعها أسيرة لأفكار التطرف والترويج لأفكار التحريض ضد كيان الدولة والمجتمع.. وجره إلى مواقع العمل والتصحيح والإنتاج والشعور بالمعنى لا البقاء في محاضن العطالة والهشاشة الفكرية، حتى تستحوذ عليه أفكار الرفض ونزعة التدمير تحت وطأة الفراغ الذهني أو المأزق الذاتي. تحصين الذات الشابة التي هي هدف الاستقطاب لن يكون فقط من خلال الدعاوى والجهود الجميلة والحسنة أو استعادة الجدل داخل الفكر الإسلامي لمحاصرة مختطفي الإسلام لواجهة العنف والتطرف والتحريض المشبوه - على أهمية هذا الجهد - إنما ايضا يتطلب الأمر أن تفتح نوافذ أخرى يستعيد من خلالها المجتمع قدرته على صناعة عالم من الرؤى والمبادرات قادرة على ملء فراغ الفكر، بما يمثل قيمة وقدرة على البقاء، ويشكل حصانة ذاتية داخلية تحول بين نزعة التطرف والإلغاء والترويج لأفكار الانتحار المجاني. وهو في النتيجة النهائية تكوين عقلي ومعرفي يملك ما يكفي من التأسيس لرفض تلك النزعات لا فقط الإشاحة عنها قلقاً أو خوفاً. التكوين الثقافي لأي شاب سعودي ليس سراً انه يدور في دائرة لم تتضح ملامحها ومازالت مساحة شاغرة، من يملؤها بالتكوين القادر على مواجهة مأزق التوقف أو الجمود أو العطالة أو أن تكون نهباً لأفكار التطرف، هو من يقوى على تحصين الذات الشابة لا من فكرة التطرف وحده، ولكن بنقص المعنى والأسس القائم عليها هذا الفكر المدمر. أي مجتمع بلا تكوينات ثقافية جادة ومؤسسة، سيبقى عرضة لحالة هشاشة وتشوه يمكن أن تعبث فيه أيدي الإعلام المتطرف البديل. المساءلة الثقافية، لم توضع بعد في أجندة مواجهة أفكار التطرف والتحريض على العنف والترويج لأسهل طرق الانتحار المجاني والمدمر.. المساءلة الثقافية ما زالت بعيدة عن هذا المشهد.. وهي يمكن أن تكون الفعل القادر والمؤثر على استعادة عقل شاب وتكوين شابة لملامح أكثر جدوى لفهم المعنى وإثارة ذلك الشعور الفائق بأن الحياة أوسع من كابوس البقاء بين فراغ يومي قاتل، أو الاستسلام لهشاشة إعلام فضائي ترفيهي، لا يقدم أكثر من استثارة الغرائز أو اللعب على حبال الوقت بلا جدوى أو قيمة أو معنى عبر رسائل sms، ومسابقات الذبول، وجوائز المئة دولار. إذا كان الإعلام اليومي غارقا في مشهد تتفيه العقل وترويج بلادة الشعور وعرض عناصر الابقاء في حالة العطالة الذهنية، فهو حتماً سيترك مجالاً واسعاً لإعلام التطرف عبر شبكة الانترنت وسواها. المسألة الثقافية لم تدخل بعد لدينا في مفهوم مقاومة الفكر المتطرف، لأن هناك من يقلق استعادة ثقافة لحيز الفعل والتأثير بوهم مخاوف مبالغ فيها، وغالباً ما ترتبط بهامش الصورة لا بعمق المعنى للتأسيس الثقافي.. كما يعود هذا لعجز القائمين عليها كمؤسسة في تقديمها كعنصر مواجهة ليس فقط مع فكر التطرف وحده، ولكن في معركة بناء الإنسان. العناصر الفاعلة في تكوين رؤى مجتمع وثقافة جيل ما زالت أسيرة صورة نمطية ودعوات وعظية لا تشكل وحدها القدرة الكافية لملء فراغ ذهني قائم على عناصر مؤسسة، قادرة على محاكمة أفكار التطرف أو التحريض على مقاومة الحياة. لدى كل جيل من الشباب نزعة الانتماء، هذه النزعة التي نتجاهلها كثيراً، لكنها تعتبر عاملا مهما في الاستحواذ على عقل شاب في لحظة شعور بفراغ الانتماء الذي يملؤه إعلام بديل حتى لو جاء بعناصر التطرف لواجهة التأثير.. وبقدر امكانية إغراء الشباب بأن ثمة ملامح لفكر قادر على الحياة، ومؤسس على معطيات العقل، ويمكن أن يحقق فاعلية في مشهد الانتماء لكيان ومجتمع.. ويستوعب روح الشاب المتدفقة حيوية وانفعالاً وجموحاً.. بقدر ما يتحقق هذا، فنحن حينها لا نقاوم الفكر المتطرف، ولكن نغلق عليه بالتحصين الذاتي منافذ العبور. الفعاليات الثقافية لدينا هشة ومتواضعة.. وكل تأسيس ثقافي لشاب خرج من شرنقة التوقف أو الهلامية، لم يكن لدور المؤسسة الثقافية فيه فعل كبير، قدر ما هي فرصة وضعت شابا أمام مواجهة مأزق التفكير بالمعنى، وقادته بظروف خاصة لعالم وجد نفسه فيه. أي احترام أكثر لشاب استغرقته القراءة في الفكر الإنساني حتى أصبح وحده عالما زاخرا بإضاءات فكرية، أصبحت حصانة باقية طيلة حياته ضد ترويج الأفكار السهلة والقاتلة في آن.. وأي شاب تذوق المعنى الثقافي إبداعاً وانهماكاً في مشروع له ملامح الإشباع الداخلي والامتلاء الذاتي وقع أسيراً لفكر متطرف.. وأي عقل مؤسس على فكر الحياة بتنوعها وتذوقها لقيمة الإنسان ورحابتها، خلا من روح التسامح وفهم الآخر حتى صنعت تلك الروح حواجز بينه وبين إغواء نشاط ساذج يروج لفكر لا يعدُ بالحياة قدر ما يعدُ بالموت المجاني. انفضوا عن مؤسسات الثقافة غباار طال تراكمه، واستعيدوا مشروعا ثقافيا يقوى على صهر عقل شاب في نشاط مجد ومغذ لروحه القلقة.. وأعيدوا النظر في تكوين ثقافة شاب أصبح نهباً للعطالة أو الفراغ.. ستجدون أننا نقلص تراكم التشوه اليومي ونحول دون وقوع الشاب فريسة إغواء أشباح الانترنت وسواهم. الفراغ الذهني عنوان كبير لاستسلام عقل شاب لمغريات التخدير الحسي أو المعنوي.. فهو إما أن يكون عرضة لمروجي المخدرات حتى استسلام بقايا إرادة وضياع لا حدود له.. أو استسلام لمروجي مخدرات الأفكار السهلة والمغرية بالاعتناق، لكن خلفها تكمن أجندة أخرى تستهدف تعطيلا من نوع آخر يصعد على سلم الترويج لأفكار التدمير والانهاك.. وهذا ما تقوم به مجموعات الرفض والتحريض عبر النفاذ من وسائل الإعلام البديل أو إعلام التطرف. لدينا مؤسسة أمنية مشهود لها بالكفاءة في مواجهة التحريض والترويج للفكر المتطرف الذي سحق كيانات مجتمعات ودول تحت وطأته.. وهناك مؤسسة دينية تحذر وتصد وتقاوم ذلك الترويج لأفكار العنف والتطرف بوسائلها وأدواتها وعلى طريقتها.. إلا أن المؤسسة الثقافية التي يجب أن تكون شريكاً في مواجهة قضية التطرف ما زالت بعيدة عن وضع أجندة تستعيد مجهوداً خاصاً لإدماج الشاب في مشروع ثقافي أوسع من قصة معرض كتاب أو ناد أدبي وبضع فعاليات سنوية خجولة ومرتبكة ومتوقفة. التأسيس الثقافي ليس مشروعاً شخصياً، ولن يكون مجرد واجهة فعاليات موسمية، انه تأسيس يستلهم قدرات عقل ومحاضن إبداع، وهو مشروع واسع متعدد الأبعاد، ومستوعب لقدرات ناشئة للتو بدأت تتفتح عقولها على المعنى، والتخلي عنه لا يعني بحال سوى مراكمة عقول ناشئة على قارعة الطريق، من يملأ فراغها يقوى على الاستحواذ عليها.