يُؤكد لنا علماءُ الاجتماع والتاريخ ومتتبعو التطور الإنسَاني أن حاضرَنا نتاج «اختياراتنا» في الماضي، وأن ما نتخيره في الحاضر نعرف صداه في المستقبل. إن الاختيار يعني جهداً مبذولاً في استخلاصِ الصواب من بين الأخطاء، ولأن الإِنسان «عَجُول»، فلربما أساء الاختيار، وقارف خطأ في حق نفسه أو غيره.. يعلم الله ذلك، ولذا فقد أتاح التوبة للخاطِئِينَ، وحثنا على أن نَتَسَامَحَ فيما بيننا.. فطالما أن الخطأ لا ريب حادثٌ، فالتسامح إذن هو العلاج الناجع والإكسير الذي يُعيدُ المخطِئ إلى دائرةِ الاستقامةِ، ويحميه من أنواء الغضب، ومصائب السخطِ، وشكول الإحباطِ والألمِ والمرارةِ..!! إن تسامُحَنَا يعني أساساً فهماً أكبر من جانبنا للطبيعة البشرية، وللخريطة النفسية التي حبانا بها المولى «سبحانه وتعالى»، فكما نعرف أننا نُخطِئُ ونرجُو أن لا نُؤاخذ بأخطائِنَا، يجب أن نتسامَحَ مع غَيْرِنَا، ونعرف أنه لا بد سيخطِئُ كما نُخْطِئ.. تَسَامَحْ مع نَفْسِك.. لا تُوقِف حياتك عند خطأ.. لا تُعَنِّف نَفْسَك، ولا تُرهِق ضميرَك، ولا تجعل من أفكارِك سياطاً مُؤلمة لموقفٍ تَسَبَّبْتَ فيه لنفسك بِحَرَجٍ أو عُقُوبَة.. من منَّا لم يَفعَل؟! خُذ الخطأ سُلماً تَصِلُ به إلى هضبة النجَاح، ولتكُن عَقِيدَتُك «كل ابن آدم خَطَّاء».. وتذكَّر دائما أن السهم لا يُصِيبُ إلا إذا تراجع إلى الوراء قليلاً، كذلك أنت لن تنجح إلا إذا ذُقتَ الفشلَ، ولن ترتفع إلا إذا انخفَضْتَ قليلاً. تَسَامَحُوا مع أهالِيكُم.. تَلَقُّوا النصيحةَ بابتسامة، وَتَعَلَّمُوا من النقد، وَطِّنُوا أنفُسكم على أن تتقبلوا الأسلوب أياً كَانت صِيغَتُه، والصوت أياً كانت شِدَّتُه، فالنقد يكون عملاً إيجابياً إن تجاوزتَ إساءاته وَفَهِمتَ مَرَامِيَه، وسيكُون مِعوَل هَدمٍ لرُوحِك إن تَوَقَّفت أمامهُ وردَّدتهُ كثيرا.. تَسَامَحْ مع مُعَلِّمِيكَ.. مَن عنَّفك لِيُعَلِّمَكَ كان هدفه بالتأكِيد صَلاحَك، ومن عاقَبَك لإِهمالِكَ فغايتُهُ إصلاحُك، ومن حاول ولم يستطع أن يَبُثَّكَ ما يَعْرِفُ من العِلم، فجزاه الله خيراً على المحاولة.. تَسَامَحُوا مع أصحَابِكُم.. وتذكَّروا.. لا تستوي الحسنةُ ولا السَّيئة.. وأن لقَاءَكَ أَخَاكَ بَاسِماً صَدَقَة، وأنَّ مُشْكِلات الدنيا جَمِيعَها لا يَنْبَغِي أن تَكُونَ سبباً لفضِّ عُهُودِ الصداقة. أَخَاكَ أَخَاكَ إِنَّ مَنْ لَا أَخًا لَهُ كَسَاعٍ إِلَى الْهَيْجَا بِغَيْرِ سِلَاحِ تَسَامَحُوا مع سائرِ الناسِ.. تذكَّروا أن الغرض مِن خلقنا هو التعارف، لا التناكر ولا التصادُم، وليس بالتأكيد نَشرَ الضغائن والِإحَن، وأن رسول الله «صلى الله عليه وسلم» حثَّ على حُسنِ المعاملةِ، وقال: «إِنّ أَقْرَبَكُمْ مِنِّي مَجْلِساً يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَحَسَنُكُمْ أَخْلَاقًا». إياكَ أن تَتَصَوَّر التَّسامُحَ علامةَ ضَعْفٍ. إن الله سُبحانه وتعالى يغفر حتَّى لمن قتل وسرق.. والرسولُ صلى الله عليه وسلَّم عفا عِندَ المَقدِرَةِ على مَن أساء وهدَّدَ، والصحابةُ والتابِعُونَ والصَّالِحُونَ يُسامِحُونَ في حقوقِهِم مع قُدرَتِهِم على استِخلاصها.. التَّسَامُحُ والعَفوُ قَرِينَان، وهُما لا يستقيمان دُون قُوَّة؛ قُوَّة الإرَادَة التي تَحِيدُ بالإنسان عن نهج المُغاضبة، وتُزِيحُهُ عن فكرة الانتقام، وتُعلمه أن الجنة سلعةٌ غاليةٌ لا ينالُها إلا الصَّابِرُونَ على أذى الغير، والأخطر؛ أذى النفس، ووَسوَسَاتِ الشيطانِ التي تدعُوكَ في كلِّ ساعةٍ إلى مُقابلة الظُّلمِ بِالظُّلمِ، والإساءَةِ بِأُختِهَا. هكذا نستعيدُ جادَّة الصواب، ونُحسِنُ الاختيار، ويكُونُ التَّسَامُحُ سَبِيلَنا لِلنجَاح.. في هذهِ الدُّنيَا الفانية، وفي دار الآخِرَةِ الباقية.