أين تأخذنا القسوة؟ لا مكان يكفيها.. فهي تهشم نفسها على الصخر.. بعد أن تحيل الحياة قفراً قاحلاً وتأكل عيالها.. القسوة وباء يتفشى بين الغافلين من الناس، وهم كثرة حين تعدهم، قلوبهم مقدودة من الصخر، ووجوهم يبست من التقطيب والعبوس. القسوة؛ جفاف الروح ويباس القلب، تنطلق مثل رصاص الكلمات المحشوة بالبارود، وفي النظرات المعبأة بالحقد والغضب. لم يكن الناس بهذا الجفاف، لولا أنهم استسلموا، للصحراء، أخذوا أسوأ طقوسها، ورددوا أردأ ألفاظها… بماذا يعدوننا القساة؟ وهم لا يوفون بوعود إلا تلك المشمولة بالاحتراب، والمشكوكة بالتربص والريبة. لم يتسن لنا السؤال من أين جاءتنا، تغلبت علينا القسوة.. وصرنا عبيدها الطائعين… غلبتنا في الشارع وكلما مشينا بين الناس.. قناع الوجوه وما يخفي.. الإشارات الصارمة تنطلق بلا تردد مثل قذائف معدة للمدافعة.. تنطلق بمجرد اللمس أو الشعور بالخطر.. ودائماً هناك ما يستثيرها… حتى التبس علينا وأمست القسوة غريزة متأصلة.. القسوة أصبحت المسافة الفاصلة بين الأجساد.. وكأن القسوة درع واق من المشاعر، كأنها خندق أو متراس عازل بين البشر.. كيف لبسناها وصارت قطعة منا لا فكاك منها، وأغلبنا ليس من أهلها.. لكنها اختراع حماية لذات خائفة.. تشمر عن مخالبها كلما تلاقت الأعين.. من يزرع الشك يحصد القسوة.. هذا ديدن التجهيل والاستعباد… لن ينتج عنهما إلا قساة غلاظ كأن على قلوبهم أغلال متراصة.. دائماً نشبّه قسوتنا بالوحش، ونضرب أمثالاً بقسوة الطبيعة، مثلما يحمي الحيوان صغيره بوحشية لا تضاهى؛ دفاعاً وخوفاً، ومثلما تحمي النباتات بذرتها، بقشرة صلبة تغلف نواتها الهشة، ومثلما الشوك يحرس الورد، لكنه الإنسان الذي يلبس القسوة درعاً على فراغ، وتكون مبتغى ووسيلة، يصعب فهم مراد قسوة لا مبرر لها. كنا نعرف قسوة الآباء، خشونة ملامحهم، وصلابة أيديهم، لكنها على خلاف القسوة التي تتفشى الآن بين الأحفاد. كان أسلافنا قساة ليحموا ضعفنا القادم، من عنف الحياة، أسلاف يجلبون الماء من قلب الحجر، ملح طعامهم حجر، طحينهم على حجر، يعتصرون زيتهم على حجر، وشجرهم يحرث الأرض. وها هي الحياة ترق وتصفو والقسوة تبقى إرثاً لا يحمي ولا يدافع إلا عن الفراغ، حتى أصبحت القسوة قلباً وقالباً. القسوة في حد ذاتها خوف؛ كيفما جاءت ومهما أخفت في داخلها من هشاشة. فبأي رعب ننام وبأي رعب نصحو، لنمتهن كل هذه القسوة.