عندما يكون الإنسان هو محور الاهتمام لكل سلطة واعية ومدركة لأهمية الارتقاء بفكر الإنسان وآدابه, فإنه بلا شك سوف ينطلق ذلك الإنسان من واقعه الضيق نحو فضاءات أوسع وأرحب يرسم فيها إبداعاته بما ينعكس إيجابا على الوطن الذي ينتمي إليه وعلى الحضارة الإنسانية بشكل أعم. ولكي يكون ذلك الإنسان منتجا وايجابيا في عطاءه لا بد له أن يملك وسطا واسعا يتحرك فيه بحثا عن المعرفة ومنتجا لها في نفس الوقت, كي تتلاقح أفكاره مع كل فكر إنساني مبدع. ولا يمكن لمجتمع ما أن يتطور دون أن يكون فيه من يحملون هما فكريا وأدبيا تصاغ في عقولهم الأفكار والآراء المتفاعلة في خيالاتهم المنبعثة من تلك العقول المفكرة والحالمة بمعانقة المجد الإبداعي الذي يخلق حضارة ويصنع قيما إنسانية تحترم الحياة كأعظم هدية إلهية منحها الله لأكرم مخلوقاته كي يبني فيها ويعمر وقد اختاره الله خليفته في أرضه. ونحن نعرف انه على مر التاريخ لم تقم حضارة بدون فكر و آداب تشكل ثقافة إنسانية مبدعة تؤسس لقيم أخلاقية وعلمية تتأسس على قواعدها صروح الحضارة وخاصة عندما يهب الله العظماء الذين يبدؤون إشعال شمعة للعقول المتلهفة لمعانقة النور والأمل. وفي واقع العرب .. لا وجود لإبداع إنساني حضاري في ظل غياب ذلك الإنسان الذي لا قيمة له, تسحقه القوانين والأنظمة التي لم تؤسس إلا لخنقه وإذلاله واستعباده. لكن ما يواجهه الإنسان العربي من قمع واستبداد وتهميش في واقعه السحيق والمحيق والكئيب والمتخلف, ليس إلا نتيجة طبيعية لما يستحقه هذا الإنسان الذليل الجاهل العبد الذي يرفض أن يتحرر أولا من خرافته وجهله وخنوعه الداخلي المتأسس في أعماقه عشقا للاستعباد والإذلال والقيد والعصا! في كل بلدان الدنيا .. يكون المثقف مصدر تنوير لأمته إلا في الواقع العربي الذي لا يزال المثقف فيه يمارس دور المشعوذ والشحاذ كي ينشر ظلامه وتزويره للحقائق وترسيخ قيم العتمة. في كل بلدان الدنيا .. يكون المثقف أول المنادين بالعدالة والمساواة والحرية, إلا المثقف العربي الذي يصمت عارا عن الدفاع عن عدالة أو مساواة أو حرية. بل أن أكثر المثقفين العرب تألموا كثيرا لسقوط بعض الطغاة ورحيلهم كون أولئك المثقفين العبيد أول المستفيدين من ثروات الطغاة ورشاويهم. والغريب أن أولئك (المتثيقفين) العرب يزبدون ويرعدون على شاشات الفضائيات الناعقة باسم الأمة وقضاياها حينما يدعون إلى محاربة محتل أو تحرير ارض دون أن يقنعوننا كيف لأمة أن تنتصر بجيوش من العبيد المنتمين إلى امة يعتبر الحر فيها نادرا واستثنائيا؟! هل يستطيع العبد المملوك أن يحرر أرضه قبل أن يحرر نفسه من جهله وخرافته وسيده؟! هل يستطيع العبد المملوك أن يفك قيد غيره ويداه مقيدتان برضاه واختياره؟! اغلب الشعوب الحرة الكريمة الطامحة أن يكون لها مكان في المستقبل تسير بخطى ثابتة وسط أجواء مستقرة, وسائلها العلم الحقيقي والمعرفة المتنوعة ومستندة على قيم إنسانية تحترم حرية الإنسان وكرامته واختياره, والعرب كلما لاحت لهم فرصة للتغيير أو التطوير أو التقدم قليلا, انشغلوا بمن يملك مفاتيح الجنة ومن يكون له الحق أن يرسل هؤلاء للنار وأولئك للجنة, كأبشع وأغبى وأسوأ مؤامرة على عقل ووجدان الإنسان حتى ينشغل بصراعاته الداخلية على حساب مستقبل الأمة الذي يبدو انه لن يكون وردياً بل ظلامياً اسود في ظل هذا الصراع الممنهج والمبرمج لهذا الإنسان العربي الذي يستحق أن يهزم ويسحق ويجلد من كل أعداءه الداخليين والخارجيين ما دام انه لم يرفض هذه الثقافة التي ترسم له كي يبقى عبدا ذليلا خانعا مشغولا ببعضه البعض, ولكي لا يرفع رأسه للسماء ويعرف معنى الحرية التي تمنحه الشعور بأنه إنسان وله حق ورأي وكرامة! لدى العرب تراث غني بالعبارات التي تبين الكثير من العبر وينطبق عليهم قول الإمام علي عليه السلام: «ما أكثر العبر وما اقل الاعتبار» كدليل على أن هذا العربي غارق في جهله وذله وخنوعه وكرهه للحقيقة منذ الزمن الأزلي إلى يومنا هذا, لكن العربي كعادته يصنع العبارات ولا يعتبر من معانيها, كقولهم: العبد يقرع بالعصا .. والحر تكفيه الإشارة! والعرب حتى حين هذا القرن الواحد والعشرين وعبر معلميهم لا يزالون ينادون بجلد التلاميذ والأبناء, ولا يزالون أكثر الشعوب قطعا لإشارة المرور وقتل العشرات في الحوادث المرورية كدليل على عشقهم للعصا وكرههم للنظام المتمثل في إشارة المرور علما أن نظام المرور لم يكن من اختراع العرب كونهم امة لا تعشق النظام وإنما تستعذب القمع وتقدس الجلاد ابتداء من الأب الاستبدادي الذي يتحول بشكل طبيعي إلى معلم استبدادي وموظف استبدادي ورجل امن استبدادي وحاكم استبدادي! الاستبداد: لا يصنع رجالا أحرارا ولا شعبا حرا ولا أمة حرة, وإنما يصنع ثعالب وخفافيش وغرباناً ناعقة إلا أمام بعضهم البعض فيكونون اسودا ونمورا! وكلما ذهبت إلى بلد عربي رأيت هذا النوع من الثعالب والخفافيش والغربان تتكاثر أمامي بشكل فاضح يسكنهم الخوف والرعب والهلع وتغشوا وجوههم الظلمة والكآبة مما يجعلني أتيقن أن هذه الأمة تعشق صناعة الاستبداد والمستبدين وإلا لما بقت هكذا بين الأمم تكره العيش بحرية! لا يصنع القساة .. إلا الضعفاء .. مثلما لا يصنع الطغاة إلا العبيد. فالأب والموظف والمعلم والمسئول القاسي الاستبدادي ليس إلا نتيجة لواقع ضعيف وأناس ماسوشيين يتلذذون بالقسوة عليهم! ولولا وجود الغنم في الزريبة لما أتى الذئب إليها كي يلتهمها, وهل يذهب ذئب إلى زريبة خالية من الغنم؟! ولا يخلق الواقع الفاسد والمسئول الفاسد إلا الفاسدون و المرتشون واللصوص والحرامية! الفساد: بحيرة آسنة عفنة قذرة ... تتكاثر فيها وحولها الحشرات الضارة والجراثيم الناقلة للمرض. والغريب أن هذه الشعوب المستعبدة تتحدث دائما عن الفساد ولا تتحدث عن الذين صنعوه ولا عن كيفية محاربته, كالذي يشتكي من حشرات وجراثيم البحيرة الآسنة ولا يسعى إلى ردم تلك البحيرة! وتتحدث عن الظلم ولا تتحدث عن الذين يمارسونه ويشرعونه على أبناءهم وأسرهم أولا. تشتكي من قيود الحاكم وهي التي لم تفك قيودها التي صنعتها بفعل عادات الخنوع التي تمارسها بفكرها الإسترقاقي. والأكثر استغرابا أن لا قانون يعاقب فاسدا ولا مرتشيا في الوقت الذي يُعاقب لص صغير فقير سرق شيئا بسيطا جدا بسبب الجوع والبطالة, بل أن بعض الإعلام العربي الموجه لا يجرؤ على طرح السؤال عن مصير كل لص سرق مالا كبيرا دون أن يعاقب, وكثيرا ما يرى العرب لصوصهم يسيرون كالطواويس وكأنهم أبطال في الوقت الذي يسير الشرفاء خجلا في واقع يحتقر الشريف ويتفاخر باللص! بل أن بعض المجتمعات العربية تصف ابنها الحرامي (بالذئب) كنوع من التقدير لجرأته وإقدامه على السرقة ... والغريب أن اللصوص يملكون جرأة وشجاعة وإقداما وهمة على السرقة دون أن يخافوا من العواقب, ويجبنون عن منازلة الأعداء للدفاع عن كرامتهم أو لتحرير أرضهم أو عرضهم, بل أن اللصوص يحتقرون من لديه كرامة وعزة تجعله يغار على أرضه وعرضه ويحارب من أجلها ويعملون بكل قوتهم لمحاربة الشريف كيلا يبقى معتزا بأمانته ونزاهته!! الفاسد والظالم والمستبد واللص: غرسات تنمو في حقل هذه الشعوب الفاسدة الظالمة المستبدة التي تقسو على نفسها وتظلم نفسها وتستبد بنفسها وتفسد واقعها كونها لا تنجب إلا هذا النوع من المسئولين الفاسدين الظالمين المرتشين الذين يتقمصون ثياب الفضيلة ويمارسون أبشع الجرائم في حق أوطانهم المسلوبة المسروقة المنهوبة. أمة عربية: أضناها الفقر والجهل والفاقة والتخلف بسبب سوء التنظيم الاقتصادي الذي يديره الفاسدون واللصوص, وبسبب سوء المناهج التعليمية التي يضعها الجهلة والموبوؤن بالحقد والكراهية ضد كل شيء جميل ونظيف ونقي, وبسبب هذا الإعلام الموجه الذي يديره الانتهازيون وبائعي الذمم والكرامة, ويكتب فيه المنافقون والمراؤون والمتملقون للحاكم طمعا في ماله ورضاه وشيئا من سلطته ووجاهته, وبسبب عدم وجود أنظمة قوية تحترم كرامة الإنسان وحقوقه وحريته تحميها قوانين لا تخضع إلا لقضاء عادل مستقل كي تحمي كل صاحب حق من الظلم ولتطبق العدالة الضائعة والمداسة تحت إقدام اللصوص وعصابات النهب والسلب! لكن القضاء في بعض الدول العربية وبكل الم وأسف عون للظالم ضد المظلوم, ونصير للسارق ضد المسروق, ودعامة قوية للباطل ضد الحق, وللقوي ضد الضعيف, مما تسبب في هذا الانهيار القيمي والأخلاقي عند الأمة التي أصبح فيها السارق والكذاب والمنافق أبطالا تستحق التقدير والاحترام والتحية! أمة عربية: تعيش عصر الدولة وكأنها في عصر القبيلة وقطاع الطرق, وتدير مؤسساتها بفكر همجي وكأنهم في صراع قبلي كل يريد أن يحقق نصرا لعشيرته! الفساد في واقعها السيئ يمنهج ويبرمج في الاقتصاد والتعليم والتربية لأجل أن يبقى العربي جاهلا جائعا ضعيفا تائها مهزوما منشغلا بتوافهه ومشكلاته وهمومه الداخلية على حساب تنميته وتقدمه وعزته وكرامته, وقد أصبح العربي يرى الفساد ويشاهد آثاره السلبية المبرمجة والممنهجة دون أن يستطيع أن يصلح شيئا أو يغيره, بل أن عصابات الفساد وعبر ممثليها في كل مؤسسات العرب الحكومية والخاصة أصبحت تتحدى كل صرخة ضد الفساد وتعلن بكل استهتار ذلك التحدي الواضح والمكشوف دون خوف من قانون أو عدالة, ولو كانت هذه الأمة حرة لما بلغ الفساد مداه, ولما بلغ الفاسدون استهتارهم بحياة الناس وثروات بلدانهم وصحتهم وتعليمهم وشوارعهم دون أن يعاقبهم أحد! بل أنني صرت اشك في الطريقة التي يربي بعض العرب أبناءه بها وكأنه يقول لطفله: يا حبيبي أريدك أن تكون (رجّال ولص وسارق) ... هكذا هي قيمنا وعاداتنا .. توصينا أن نكون رجالاً حرامية نسرق وننهب ونكذب ونخون الأمانة! أتخيل بعض الآباء يربي أطفاله قائلاً: أريدكم أن تكونوا رجالاً .. تسرقون هذا الوطن وتنهبون ثرواته .. إذا وليتم مسئولية فاسرقوا واظلموا وتعصبوا لبعضكم البعض, ولا تخيبوا أملي فيكم ... كونوا كل شيء سيء ما دام انه يجلب لكم المال الحرام والسلطة الظالمة ... إياكم أن تعدلوا أو تكونوا شرفاء أمناء أحرارا, وانبطحوا مهما كان ثمن الانبطاح في سبيل أن تكونوا حقراء! وإذا شعرتم بالحرج وأردتم أن تضيفوا شرعية على فسادكم وخبثكم وقبحكم وانبطاحكم فالعبوا على وتر الدين والفضيلة وحولوا الأمر إلى أمر شرعي يأمركم أن تكونوا سيئين من اجل مصلحة الأمة والعقيدة! قولوا: نحن نمارس اللصوصية كي نكون أمناء على العقيدة ونمارس الظلم كي نكون عادلين باسم العقيدة ونمارس الكذب كي نكون صادقين كما تأمرنا العقيدة ونزور الحقائق كي نصل إليها ونملكها حفاظا على سلامة العقيدة ونشوه العلم والفكر والتربية والثقافة ونحارب كل شيء جميل من اجل أعلاء كلمة الحق!! بينما كل عقيدة صافية ونقية: يجب أن لا تعلم أبناءها غير قول الحق الذي يرفض الباطل أيا كان مصدره, وترسخ في قلوبهم حب الأمانة التي لا تقبل التزييف والتزوير تحت أي مبرر. كل عقيدة صافية ونقية وكل مبدأ سامي: لا تسن للظلم قوانين وتسميها عدالة, ولا تشرعن الكذب كوسيلة لخدمة أهدافها, ولا تتستر على السارق أيا كان حجمه أو وزنه أو قوته انطلاقا من مبدأ الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم «لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها»! تسمع في منابر المساجد كل الخطب التي تناقش بعض هموم الأمة البسيطة إلا الفساد الذي يهدر ثرواتها ويفشل مشاريعها, وتستغرب ذلك الصمت الذي يمارسه الخطباء في منابر المساجد العربية ضد الفساد المالي والإداري الذي ينخر جسد الأمة ويهدد بانهيار أنظمتها مثلما حدث للاتحاد السوفيتي, وكأن بعض الخطباء جزء من ذلك الفساد أو شريك فيه؟! رحمك الله يا نزار قباني .. تساءلت ذات يوم قائلاً: متى يعلنون وفاة العرب؟! هاهم يا سيد الشعر يموتون وقد أصبحوا ضد كل شريف وحر ومناضل ومع كل سارق ومرتشي وفاسد. هاهم يا سيد الشعر يموتون في القرن الواحد والعشرين الذي شهد أسوأ سقوط لأمة تعشق الاستبداد والقيد والعصا والألم ... وتكره: أن تسمع اسم الحرية! وهل تكون الحرية غاية غير الأحرار؟! العرب ... يا سيد الشعر .. بالرغم من أنهم في العناية المركزة منذ قرون .. يموتون في القرن الواحد والعشرين.. بسبب أمراض الذل والخوف والخنوع والفساد وعشق الاستبداد والاستعباد الذي يجري في دماءهم التي لا تنزف إلا سفكا للحرية!! سالم اليامي صحيفة صوت الاخدود