مع خطوات الإنسان المعاصر اللاهثة وراء الغد وأفعال المستقبل يظل الشعر أحد أهم مكونات الجوهر الإنساني.. فهو كوّة من الأمس والغد.. الأحلام والذكرى.. الأثر والخلود، والحقيقة ورحلة البحث عنها، فالشعراء الذين يقومون برحلات متتابعة نحو الجوهر الإنساني ثم لا يعودون منه إلا ببخور أرواحهم، سيبقون دائما أحد أهم مصادر توثيق الوجود حين يتركون في قصائدهم يومهم وفي تداعياتهم أمسنا جميعا وفي استشرافهم ما لا نراه دونهم.. في الباحة حين اجتمع مايقارب سبعين شاعرا على غصنٍ واحدٍ ينشدون المكان والزمان والوطن لم نرَ ذلك الصراع أو التباين أو حتى تصادم الأذواق الذي عانت منه قصيدتنا المحلية بل والعربية لأكثر من أربعة عقود.. الجميع أنشد مايشبهه ووافق مايشبهنا لم نعتنِ جميعنا بثياب القصيدة أو صوت مشيتها جاءتنا دائما مهيَّأة للتلقّي وآيلة للذيوع، وبالتالي بدا لي بوضوح تجاوزنا لمرحلة مهمة جدا تعثّر بها إبداعناالشعري جرّاء دخولنا قبل عقدين من الزمن أو تزيد بأزمة النوع التي تبنّاها شعراؤنا قبل مريديهم، حينما ظنَّ كل واحدٍ منا أن النوع أو الشكل الشعري الذي يكتبه هو الوحيد الناجي من أزمة افتعلناها للشعر وتكبَّبت فيها قصائدنا بسبب حالة تلقّي معلّبة ومفصّلة لشكل شعري معين دون غيره ودون الانتباه للتغيرات الجوهرية التي يمرُّ بها الشعر وتشكّل دائما موقفه من الوجود، ومع هذه الأزمة المركّبة والمعقّدة التي تردّد كثير من الشعراء بسببها في كشف آفاقهم والتجريب المفترض في إبداعهم ورؤاهم وموسيقاهم، وركنوا إلى تكرار مارضي عنه المريدون أو حتى المؤيدون الذين يضعون الشكل أول قضاياهم وأقصى اهتماماتهم فيجمعون التجارب المتشابهة في الشكل بسلّة ذوقية واحدة دون تمحيص التجارب أو الالتفات لتمايزها، مع هذه الأزمة غاب النقد التطبيقي المختص إلى حد كبير وانصرف عن الشعر بحجة طغيان فنون أخرى عليه كالرواية مثلا وهي التي ابتليت كذلك بطفرة استسهال عند كل فئات المجتمع وأصبح كل واحد فينا أيا كانت اهتماماته أو قراءاته يستشعر في نفسه القدرة على كتابة الرواية! النقد الغائب حضر أحيانا لا ليردّ السلام على القصيدة ويأخذ بيدها إلى حضورها بل جاء غالبا إما على شكل ظواهر أكاديمية لا تعتني إلا بما يستكمل البحث أو ليكون فصلا آخر من فصول جلد الذات الذي مارسناه ونمارسه كثيرا على إبداعنا.. لكن الباحة انتصرت للشعر ودفعت الحضور كل الحضور للسلام على القصيدة كيفما جاءت على عنقِ بعير أو على جناح طائرة أو حتى على رقصة قرْطٍ..