في زمن الطفولة المدنيّة.. ظلّت أفلام الكرتون المدبلج التي يقدمها التلفزيون السعودي الوحيد في ذلك العصر.. أكثر من تسلية وأصدق من رؤيا كما يبدو.. كانت اللغة القادرة والمؤثرة فيها تشكّل ألسنتنا النابتة في تربة اللّهجة المحلّية.. فضلا عن قدرة فنتازيتها أحيانا على تحقيق التوازن النفسي لنا بين الحلم والحقيقة ، بين الأمنيات والمعاش.. في زمنٍ ما سألت صديق الطفولة يوما.. لو أن العرب يمتلكون ( جرندايزر ) هل سنتمكن من تحرير فلسطين.. ربما كانت رؤيا أو هاجسا أو حلما.. المهم أنني تجاوزت كثيرا ذلك السؤال وعبرت اليوم بأسئلتي عن أفلام الكرتون على بعض المبدعين فكانت هذه المداخلات .. نجلاء السليم نجلاء السليم.. «فلّونة» المتمردة تشبهني الفنانة التشكيلية نجلاء السليم استعادت طفولتها بالكرتون المدبلج ( فلونة ) قائلة :( كان مسلسل فلونة في ذلك الوقت الوحيد الذي حرصتُ على متابعته وتفريغ وقتي الطفولي له تماما وكأنه الوقت الذي أحلق فيه بالخيال لأتقمص شخصية فلونة وأعيش كل يوم قصة في الغابة حين تمثل لي العالم الجديد.. ومع تقمصي لشخصية فلونة كنت أرى نفسي فيها تلك الفتاة القوية التي لها حق في الحياة كاملة دون نقصان. حق الفكر وحق الاختيار وحق المساواة مع إخوتها الذكور.. فلونة لم تكن الفتاة الجميلة ولم تهتم لذلك تشارك الأولاد ألعابهم ومغامراتهم تحب الجرأة والشجاعة ترفض أن تكون الضعيفة بل تبحث عن حل لكل مشكلة تواجه الأسرة في الغابة مؤثرة ومتمكنة من تغيير المواقف للصالح العام. هذا ما كان يعجبني في فلونة وجدت فيها ما كنت أبحث عنه في ذاك الوقت فواقعنا لا يسمح بمثل هذه الشخصيات من الفتيات أن تتواجد بيننا!). محمد خضر محمد خضر : «سيلفر» لغزٌ نطارده طيلة الحلقات في حين كانت ذاكرة الشاعر محمد خضر مزحومة ب سيلفر وجزيرة الكنز وغموض أحلامه.. حيث قال :( لعلي يومها أقصر من طاولة التلفزيون التي كنت أتسمر أمامها مصغياً إلى بداية حلقة من المسلسل الكرتوني "جزيرة الكنز " المأخوذة عن رواية للايرلندي ستيفنسون ، قصة القراصنة والبحارة الذين يبحثون عن كنز قديم في جزيرة بعيدة ، وينشدون : " خمسة عشر رجلا ماتوا من أجل صندوق " ، لاأدري أي أثر تحديدا تركه فيّ هذا المسلسل الكرتوني ، وإن حاولت تقصي ذلك في داخلي أجدني محتارا بين اللغة الجميلة في الحوارات بين شخصيات القصة ، أو الأناشيد والأغنيات التي كان القراصنة يغنونها أثناء الانتصارات أو الخيبات ، أو تلك الشخصية التي ظهرت في الحلقات الأولى ، الرجل الذي يرتدي لباس العرافين ويردد تنبؤاته عن الأشرار والطقس ويستمر محذرا الناس ، حتى قتل لأنه شكل خطرا بمقولاته التي يصدقها الناس، أو الرجل ذو الساق الخشبية سيلفر الذي استطاع مؤلف الرواية أن يجعله لغزا نطارده طيلة الحلقات ، حتى أحببناه في لحظات وكرهناه في لحظات ،وشخصية مثل الفتى جيم ، وا أستطيع نسيان مسلسل كرتوني آخر وهو " عدنان ولينا " المأخوذة عن رواية يابانية أظنها لم تترجم إلى اليوم ، أعتقد أنه أثر في وجداني وداخلي لفترات طويلة ، ومن شدة أثره ، كبرت وعدت أتابعه لأكتشفني ولأستعيد لحظات الطفولة رغما عن الزمن ، كما لا أنسى المسلسل الكرتوني تأثير الليث الأبيض وتلك اللغة الجميلة مع عبدالمجيد مجذوب وآخرين ممن أبدعوا وعلمونا جماليات وسهولة أن نقول ونكتب بلغة سهلة مفهومة وجميلة وبمخارج حروف سليمة ، ولعلي أيضا أتذكر " هايدي " و " فلونة " ، والسندباد ، وسيريالية السنافر.. شيمة الشمري : في أحضان الطبيعة «هايدي» أمدتني بسعة الخيال وتشاركه القاصة شيمة الشمري هذه النزعة نحو شخصية القرصان سيلفر حينما تقول: ( من الشخصيات التي بهرت بها " سيلفر " صاحب القدم الخشبية في المسلسل الكرتوني جزيرة الكنز ، ربما جذبني غموضه والإصرار على البحث وشخصيته الغريبة التي تجمع القسوة واللطف.. كان ذكيا يسعى لهدفه بشكل حثيث وغامض ، حواراته مع الصغير " جيم " كانت ملهمة وشخصيته تختلف عند تعامله معه خلاف قسوته من زملاء القرصنة ! تناقضاته طبعت في مخيلتي ، والصلة التي جمعته بجيم الصغير وتأثرهما ببعض كانت محل التفات وانبهار.. ) ولا يمكن أن تغفل باستعراضها لتلك الشخصية إعجابها وتأثرها كذلك بشخصية هايدي ملهمة الطبيعة إذا تواصل حديثها قائلة : ( أيضا كنت أعشق هايدي بانطلاقها وبراءتها في أحضان الطبيعة التي أمدتها بسعة الخيال وكونتها كما هي دون تدخل يذكر ممن حولها ، تتصرف على طبيعتها بغض النظر عن الكبار، يمطرها اللوم والعتب والحزن وتظل شامخة ومقنعة رغم صغر سنها ) .. أحمد اللهيب أحمد اللهيب : الموضوع تعزيز لبقية طفولة لم تكتمل الشاعر أحمد اللهيب رأى في تلك الأفلام الكرتونية نوافذ رؤيوية متعددة كل شخصية فتحت له نافذة حتى وإن لم تمنحه عينيه يقول : (في زمنٍ مضى لا يمكن تحديد أيُّ أفلام الكرتون أقرب إلى النفس؛ لأننا لم نكن نحظى بها إلا في وقتٍ قصير وفي حيزٍ مكاني ضيق، لم تكن هذه الأفلام تستقطع من أوقاتنا شيئا كثيرا لكنها تستقطع من ذاكرتنا حيزا كبيرا. الآن – بعد الأربعين – تبدو صورة عدنان ولينا من أكثرها حضورا- طبعا بلا شك - بعد ( توم وجيري ) اللذيْن يمثلان متعة وضَحكة وتسلية متنوعة، وهي تتجد الآن في الذاكرة بشكل طريف ومدهش، أجد ( ابني زياد ) يتابعها فأنضم إليه متابعا وكأن الموضوع تعزيز لبقية طفولة لم تكتمل. في ( عدنان ولينا ) تاريخ مذلّ لتدمير الإنسانية بشكل مؤلم وحزين، من أجل فئة لا تسعى إلا من أجل ذواتها بشكل أناني ومخزٍ في آن واحد، كلما تذكرت ما يحل في عالمنا الآن من دمار وهلاك وتقتيل تبرز صورة الدمار الشامل في ذلك الفليم الكرتوني، أحيانا أمزجها بصورة انبعاث العنقاء سليمة بعد أن احترقت لتنبعث من جديد، أتساءلُ :هل سينبعث السلام من جديد في عالم مليء بالتشرد والقتل والتعذيب في أرجاء متفرقة منه – وبخاصة في عالمنا العربي - ؟. تشدني مقدمة ذلك الفيلم الجميل وما فيها من بعدٍ إنساني يحمل كلمات السلام والمحبة والجمال. أتمنّى دائما أن نجد صورة أخرى لهذا الفليم الكرتوني الجميل الذي يعيد شيئا من جمال إنسانيتنا وبهاء حياتنا المفقود.) وبعد.. تلك كانت ذاكرة كرتونية هدهدت أحلامنا الطفولية وأخذتنا جميعا إلى اليوم بذاكرة لاتكتفي باكتمال الطفولة ولاتنتهي برؤانا حيالها.