الوطن، مفردة جميلة.. حولتها بعض الحركات إلى ذنب عظيم يستعمر قلوبنا، فما نكاد نشعر بالفرح والاعتزاز به إلا وتقرع أجراس الإثم التي زرعت في صدورنا أجراسها منذرة بخطر يتهدد إيماننا إن نحن قدّرنا الوطن حق قدره. ما يمتاز به جيلي ومن سبقنا -على تفاوت في الإيمان بالوطن- أننا عرفناه قبل أن يلوّث علاقتنا به فكرُ الصحويين، فعلاقتي بالوطن تجاوزت الحب إلى العشق وأنا غير نادم على ذلك، بل أستزيد من العشق لأبلغ الوله، وقد سبب ذلك الكثير من المتاعب وما زالت تترى على اعتبار أن من الحب ما قتل. نعم، فأنا مجرد مواطن لوطن لا بديل لي عنه، تعلمت فيه، وليس في إحدى المدارس الداخلية في سويسرا أو بريطانيا، تعالجت في مستشفياته، إذ لم أملك ما يعالجني في مايوكلينك أو جون هبكنز، ولم يكن لدى والدي واسطة ليتكفل الوطن أو مواطن آخر (من درجه أعلى) فيرسلني طلبا للعلاج. رأسمال والدي إيمان عميق بالوطن وقيادته وولاء منقطع النظير تعلمته منه -حفظه الله-. وطن يسكنني كما أسكنه، فهو يعرف أنه في قلبي، وأنا على يقين أن ليس لي مكان على الأرض سواه؛ فليس لدي قصر في منتجعات أوروبا، ولا حتى شقة في أية عاصمة عربية، "وطلعت خائباً في نظر البعض" فلم ابتعْ جواز سفر من وطن آخر أهرب إليه عندما يجد الجد لا سمح الله، ولست هجينا نتاج زواج مختلط ممن يعتبرون البلاد مزرعة تجنى خيراتها وتخزن في مكان آخر خارج الحدود. فقد ارتبط مصيري بمصيره ولن أكون بدونه. في هذا البلد ولدت وعلى أرضه نشأت، وأتمنى أن أموت وأدفن فيه. وهذا يعني أن ما يصيبه يصيبني، فخيره خير لي، وشره وبال عليّ، ولذلك فإنني في يوم الوطن مجرد مواطن يبوح بصدق لوطنه. لا أستحي من مواطنتي كما يتخفى البعض خلف الجزيرة العربية، ومكة المكرمة، والمدينة المنورة، وبلاد الحرمين، والحجاز، إلى آخر تلك الأقنعة، خجلاً من مواطنته العربية السعودية، أو خشية أن يصيبه الأذى بسبب الانتماء إلى وطنه السعودي. ومع شرف الانتماء لتلك الأسماء، فإنني أعبّر بفخر عن انتمائي لكيان سياسي اسمه المملكة العربية السعودية، إلا أنني لست بهيماً يقاد، ولا قطيعاً يساق؛ فحسابات المصالح والمفاسد حاضرة دائماً، والتئام الشمل أولوية لا أساوم فيها ولا عليها، ولم يكن ولن يكون من طبعي النفاق فأظهر خلاف ما أبطن. ولقد تاجر بالولاء المزدوج والانتقائي حسب الظروف مَن تاجَر؛ فتَجِر، وقد اخترت الكفاف أعيش به حراً على غنى أعيش به كالدرهم يتقلب من جيب إلى جيب. المواطن الصالح يروم لوطنه العلا والمعالي، وأكثر ما يؤلمني أن يكون وطني قادراً على امتطاء صهوة السحاب، ويرضى بأن يكون حده السفوح. كنت أشعر بذلك وينتابني غضب شديد من هذا التخاذل، وأعجب لمن يملك كل مقومات النجاح ولم يستثمرها بالشكل المناسب...لكن السؤال هل لدى كل مواطن الرغبة في أن ينجح الوطن ولو على حساب مصالحه الشخصية؟ سؤال لا بد من التوقف عنده وذلك حتى لا تتحول المطالبة بالأفضل وبالأصلح إلى شعارات لاتساوي ماكتبت به. وأجزم أن غالبية مواطني المملكة يتمنون لبلدهم الأفضل وسيعملون من أجل ذلك، ولكن العمل شاق والطريق طويلة. يوم الوطن يأتي هذا العام والمخاطر المحدقة تستدعي لحمة وطنية حقيقية، والمصائب التي تتهدد الوطن تطل برأسها من كل صوب، ولم تعد تحشد الجنود لتقتحم الحدود بل دخل الخطر كل بيت ينخر في الولاءات ويقذف بالشك في الصدور، ويزعزع الثقة في ضعاف النفوس، ولذلك فإن المسؤولية تحتم على كل مواطن صالح أن يكون درعاً للوطن فلا يؤتي من قبله، وأن يعرف أن الوطن وحبه من كمال الإيمان وليس من نواقض الإسلام، فوطن لا نحميه لا نستحق العيش فيه. عندما وقف مؤسس حركة الإخوان حسن البنا أمام الملك فاروق –رحمهما الله- قدم له كشفا بفساد الدولة، وأن النمط الغربي الذي ولد قبل نحو 400 عام في بناء دول ذات سيادة هو نظام فاسد وأنه يتجه لمزبلة التاريخ، وأن البديل هو الأمة الإسلامية التي سيشرق نورها على الأرض جميعها، ومن هنا بدأ الوطن يتلاشي في نفوس المؤمنين بانتظار أمة إسلامية تحكم هذا العالم. ومن يكره ذلك؟ لله في هذا الكون نواميس، ورسولنا صلى الله عليه وسلم قال أنتم أعرف بأمور دنياكم، ومنذ مقولة البنا في الخمسينيات لم يزدد الغرب إلا تقدماً وازدهاراً بينما حال العالم الإسلامي من سيئ إلى أسوأ. ولعل واحداً من أسباب هذا التدهور هو أننا اعتبرنا بلداننا حظائر موقته، فلم نعمل لازدهارها، ولم نخلص في حبها، ولم نعتبرها حقيقة لا بدائل عنها، فقد كانت بالنسبة لنا مجرد مهاجع ومحطات بانتظار وصول قطار الأمة الذي لم يصل. ولأن الغاية تبرر الوسيلة عند أعداء الوطن فقد اصطفوا في خندق عبدالله بن سبأ يبرزون عيوب الوطن، وينشرون السوداوية، ويعمقون الفجوات بين المواطن وقيادته، ومنذ عرفناهم في القاعات الدراسية وعلى المنابر وهم يلمزون؛ يصرحون حينا ويلمحون أحيانا، والرسالة واحدة الطعن في الوطن وقيادته، متخذين وصية ابن السوداء منهاجاً لهم حيث قال "ابدؤوا في الطعن على أمرائكم و أظهروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تستميلوا قلوب الناس وادعوهم إلى هذا الأمر. " الوطنية الحقة ليست ثمرة الرفاهية، وإنما هي أساس العطاء والإيثار، لنختلف ونتفق، لنغنَى ونحتاج، كل ذلك من نواميس الكون، لكن يبقى الوطن شامخاً في نفوسنا نحميه بأنفس ما نملك.