الوطن قيمة كبيرة أعجز عن وصفها، فهو أكبر من أن يوصف، فالوطن هو الكيان والوجود، هو العزة والكرامة، هو الأمن والأمان، هو الانتماء والهُوية، والإنسان بلا وطن، لا كيان له ولا هُوية، ولا حماية، لن أنسى قط موقف السفارة السعودية في لبنان إبان العدوان الإسرائيلي على لبنان عام 2006م، وكان بالصدفة يوم وصولي بيروت كان العدوان، والسفارة السعودية استقبلت المواطنين السعوديين واستأجرت لنا حافلات كبيرة، وسرنا في قافلة كبيرة إلى دمشق عبر طرابلس لأنَّ إسرائيل دمرت كل الجسور الموصلة إلى دمشق، وعند وصولنا إلى دمشق استضافتنا السفارة في أحد الفنادق بها، ونقلتنا إلى المطار، وحجزت لنا على متن الخطوط السعودية دون أن ندفع فروق اختلاف نقطة المغادرة وخطوط الطيران، وعدنا إلى بلادنا سالمين، ولم ندفع قرشًا واحدًا، هذا يعطينا مؤشرًا أنَّ لنا ظَهرًا يحمينا، فحكومتنا لم ولن تتركنا نتعرض إلى مخاطر دون أن تعمل على حمايتنا منها، ومثال آخر عندما حدث بركان أيسلندا في إبريل الماضي تعلق أناس كثيرون في مطارات عواصم أوروبية لتوقف الطيران بسبب الرماد البركاني، فما كان من ولي العهد صاحب السمو الملكي الأمير سلطان إلا أن يسكن السعوديين الذين علقوا في مطار لندن في أكبر فنادق لندن على حسابه الخاص. فبالوطن نقوى ونعيش، ونستطيع الحفاظ على ديننا، وندافع عنه، وإنَّي أعجبُ من أولئك الذين يعتبرون الهوية والانتماء إلى وطن من الجاهلية، في حين لا يعتبرون الانتماء القبلي والولاء للقبيلة من الجاهلية، فلو تأملنا في أحوال شبه جزيرة العرب، ورجعنا إلى قبل الإسلام نجد أن الهوية كانت قبلية، فالفرد ينتمي للقبيلة. لم يكن هنالك كيان سياسي واحد يضم سكان شبه الجزيرة، حتى الممالك التي قامت هناك -باستثناءات قليلة في الجنوب– قامت على أسس قبلية. فالقبيلة كانت محور الحياة في شبه الجزيرة، يتمتع المنتمي للقبيلة بالأمن وجميع الحقوق المتعلقة بالجوانب الاجتماعية والاقتصادية. والانتماء للقبيلة ليس من الضروري أن يكون عبر صلة الدم، فالقبيلة بصورة عامة تنتمي إلى جدٍّ واحد يرجع إليه نسب أفرادها. ولكن لم تكن رابطة الدم شرطًا في الانتماء للقبيلة. فقد تضم القبيلة شخصًا لا صلة له بها، ويعرف ذلك بنظام الولاء يتمتع الفرد فيه بجميع حقوق الأفراد الآخرين، الذين يتمتعون بصلة الدم في القبيلة. وحدث تغير كبير لمفهوم المواطنة بعد ظهور الإسلام، فبقيام دولة المدينة بعد هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم توحدت الانتماءات العرقية والقبلية القديمة في شبه الجزيرة في هوية جديدة وهي الانتماء للأمة بغض النظر عن العرق أو اللغة أو الدين. فسكان المدينة من عرب ويهود وغيرهم من فرس وروم وحبش مسلمين وغير مسلمين أصبحوا جميعًا مواطنين في دولة المدينة. فالمواطنة أصبحت حقا تمتع به كل المواطنين وفقًا لنصوص صحيفة المدينة التي جاء فيها: «هذا كتاب من محمد النبي (صلى الله عليه وسلم) بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم أنّهم أمة واحدة من دون الناس... وقد وضعت صحيفة المدينة -أو دستور دولة المدينة كما يطلق عليها أيضًا- أسس الدولة التي تأسست بالمدينة مباشرة عقب وصول الرسول (صلى الله عليه وسلم) إليها. وأطلقت الصحيفة على سكان دولة المدينة اسم «الأمة»، ووضحت أنّ الأمة تكونت من المهاجرين من قبيلة قريش ومن سكان مدينة يثرب، وكان هذا هو اسمها الذي تغير بعد هجرة الرسول إليها إلى المدينة «مدينة الرسول»، والأمة هي الشعب طبقًا لتعريف الصحيفة للأمة. فالشعب هو الذي يضمه وطن واحد ينتمي إليه على اختلاف الأديان والأعراق واللغات والأجناس، ويدين بالولاء له، ويدافع عنه ويحميه. وقد ألغى الرسول صلى الله عليه وسلم القبلية، وقال «دعوها إنَّها منتنة» ولكن للأسف الشديد نجد البعض منا لا يزال متمسكًا بالقبلية، وانتماؤه وولاؤه لها في المقام الأول، ومتمسكًا بعاداتها وتقاليدها وأعرافها حتى المتنافي منها مع الدين، وإنَّي لأعجب من صمت علماء الدين على تغليب العادات والأعراف القبلية على أحكام الدين، كحرمان بعض القبائل المرأة من حقها في الميراث، وتحريم على المرأة المطلقة مقاضاة طليقها الذي من قبيلتها بشأن حضانة ورؤية أطفالها منه! وإنَّي لأعجب أكثر من اعتبار بعض علماء الدين أنَّ الهوية والانتماء الوطني من الجاهلية، وليس من الدين، ولعل هذا في مقدمة أسباب عدم جعل الوطنية من أولويات بعض السعوديين، مع أنَّنا لو تأملنا في السيرة النبوية نلمس مدى حب وولاء الرسول صلى الله عليه وسلم لموطنه “مكةالمكرمة” فعلى الرغم من تعرضه للإيذاء على مدى ثلاث عشرة سنة من المشركين من قومه، وحصاره في شعب أبي طالب ثلاث سنوات، ولكنه لم يهاجر منه إلاَّ بأمر من الله عندما تآمروا على قتله، وعند مغادرته لمكة قال “اللهم أخرجتني من أحب البقاع إلي فأسكني في أحب البقاع إليك”، وعندما عاد إلى مكةالمكرمة فاتحًا عفا عن بني قومه قائلًا لهم “ما تظنون أنِّي فاعل بكم؟ فقالوا له: أخ كريم وابن أخ كريم”، فقال لهم “اذهبوا فأنتم الطلقاء”، وأعلن “من دخل دار أبي سفيان، فهو آمن” وهذا يوضح لنا حقيقة هامة ينبغي أن لا تغيب عنا، وهي عدم ربط الولاء للوطن بما يناله المواطن من حقوق؛ إذ ينبغي أن يكون الولاء للوطن فوق أي مطالب شخصية، فها هو الرسول صلى الله عليه وسلم رغم ما تعرض له من إيذاء إلاَّ أنَّه لم يؤثر على حبه وولائه لوطنه، ولكن لا يعني هذا أن يتنازل المواطنون عن بعض حقوقهم، فالذي أعنيه أنّ عدم حصول أي مواطن على بعض حقوقه لا يبرر له البتة خيانة هذا الوطن، والتحالف مع أعدائه ضده، والتجسس عليه لحسابهم، أو الانضمام لجماعات إرهابية لزعزعة الأمن فيه، أو الإساءة إليه والطعن فيه. ولا تعارض البتة بين الانتماء الديني والانتماء الوطني، بل الانتماء الوطني يقوى الانتماء الديني ويعززه، لأنك عندما تدافع عن دينك تنطلق من قاعدة قوية هي وطنك الذي يوفر لك القوة والحماية والأمان، فالرسول صلى الله عليه وسلم لم يستطع الدفاع عن الدين الإسلامي ونشر رسالته إلاَّ عندما أصبح له وطن ودولة آمن فيهما، والشيخ محمد بن عبدالوهاب لم تنجح دعوته في تنقية العقيدة الإسلامية ممَّا علق بها من شوائب الشرك والبدع إلاَّ بتحالفه مع الإمام محمد بن سعود حاكم الدرعية لأنَّه أدرك أنَّ الدعوة تحتاج إلى سلطان يدعمها، والفلسطينيون الآن عاجزون عن حماية المسجد الأقصى لأنَّ وطنهم محتل، والمحتل يمنع المقدسيين من صلاة الجمعة ممن هم دون الأربعين سنة، ولا يستطيعون المطالبة بحقهم في الصلاة فيه، فما أحوجنا إلى تعميق هويتنا وانتمائنا لديننا ووطننا وعروبتنا ولغتنا العربية في نفوس وعقول وقلوب ووجدانات أولادنا، فهويتنا الإسلامية والعربية بدأت في الذوبان في الآخر، وجولة سريعة في أسواقنا وشوارعنا، تؤكد لنا هذا الواقع المرير، فأسماء الأسواق التجارية ومحلاتها ومطاعمها في الغالب أسماء أجنبية، وتكتب بالعربية على استحياء وبخط صغير، ولغة التعليم الجامعي في بلادنا مهد اللغة العربية أضحت في الغالب اللغة الإنجليزية التي أصبحت هي لغة التعاملات والمعاملات، ولا سيما في القطاع الخاص، بينما نجد الصين واليابان محافظتين على لغتيهما رغم صعوبتهما وتعقيدهما، والعولمة لم تجعلاهما يكتبان أسماء محلاتهم ومطاعمهم باللغة الإنجليزية، أو الفرنسية، ولم يجعلوا لغة التعليم لديهم اللغة الإنجليزية، فللأسف البعض منا نحن العرب والمسلمين، وهذا البعض ليس بقليل ليس لديه اعتزاز بدينه ولغته، ويتنازل بسهولة عن هويته ولغته، حتى نجد من شباب المسلمين الذين يهاجرون إلى الولاياتالمتحدةالأمريكية، أو أوروبا يتخلون عن أسمائهم العربية الإسلامية، ويسمون أنفسهم ب “جورج”، وروبرت، وميخائيل، وجوزيف، ومايكل... إلخ. إنَّ تعميق الهوية والانتماء للوطن لا يكون بالاحتفال السنوي باليوم الوطني فقط، ,إنَّما ينبغي أن يكون في أساليب التربية الأسرية والتعليمية والاجتماعية بطريقة تطبيقية وعملية، وليس مجرد دروس وخطب ومحاضرات تُلقى.