كمية الأكاذيب التي نعيشها في الفترات الأخيرة، ومحاولات اللعب وخلط الأوراق لتعمية الأنظار عن رؤية الحقائق تتجاوز الوصف، بحيث وصلنا إلى مرحلة من العبث اختلط فيها الحابل بالنابل، والقاتل بالمقتول، وأصبح التضارب والتناقض هو السمة الغالبة على كل شيء، حتى اللغة أفرغت من معانيها ودلالاتها، وأصبحت الألفاظ تستخدم لخدمة الأجندات المراد تمريرها، فالعدوان الإسرائيلي ومحاولات الرد عليه "عنف متبادل"، وإسرائيل قاتلة الأطفال تطالَب "بضبط النفس" وكأنها البريئة المعتدى عليها، والعادة أن يطلب من المرء المستثار ضبط النفس ليتمكن من التصرف بحكمة ويتبصر بالعواقب، أما ارتكاب المجازر فهو مبرر لأن إسرائيل "لها الحق في الدفاع عن نفسها"، ومجلس الأمن "يأسف لارتفاع عدد القتلى في غزة"، و"أمريكا قلقة" من التصعيد، ووزير خارجية فرنسا "يعبر عن خيبة أمله من عدم وقف إطلاق النار"، وجامعة الدول العربية "حانقة"، وهكذا.. أسف.. قلق.. خيبة أمل.. حنق.. كلمات ناعمة تستخدم في سياق مجازر ترتكب يوميا ويزيد عدد القتلى فيها على مئة قتيل في اليوم الواحد، هذه أمثلة للغة المراوغة والمتراخية التي تضلل الرأي العام، وتقلل من بشاعة مايحدث في الواقع، وتعتم على الحقائق التي تجري على الأرض، وهو نهج دأب الإعلام عليه. حين نأتي إلى الأكاذيب فإن بعضها يبدو أقرب إلى النكات المضحكة "ولكنه ضحك كالبكاء". من النكات الأخيرة ما قاله وزير الخارجية السوري عن استعداد بلاده للتعاون إقليميا ودوليا في الحرب على الإرهاب! يبدو أن الوزير نسي أسطورة المؤامرة الكونية التي تحاك لبلاده حين أحس أن مصالح النظام تتقاطع الآن مع المجتمع الدولي، ونسي أن رئيس نظامه الحامي استباح البلاد بأكملها تحت ذريعة الإرهاب الذي صنعه وهيأ له. منذ فترة تحدث كاتب وناشط سياسي سوري بارز في أحد البرامج الحوارية عن وقائع اطلع عليها بنفسه تثبت أن النظام السوري خطط بدقة للعنف قبل أن تبدأ الثورة السورية تحسبا لأي مظاهرات واحتجاجات على غرار ما حدث في دول عربية أخرى، وأعد التهم لتوجيهها كالمعتاد دون أي أدلة، ووجه تهديدات بصورة واضحة ومباشرة بأنه في حالة قيام مظاهرات في سورية وكان هدفها النظام فلن تبقى سورية! هذه هي المعادلة التي يجب أن يضعها المعارضون أمام أعينهم، فإما أن يبقى النظام أو تزول سورية! وقد أثبت واقع الحال هذه المعادلة البائسة بأكذوبة "الجماعات المسلحة" التي أطلقت في البداية على أمل أن تصبح حقيقة لتبرر المزيد من القتل، ولم تكن تلك الجماعات إلا الآلاف من مرتكبي الجرائم الجنائية الذين لم يقبض عليهم ممن استدعوا ونظموا ثم أوكلت إليهم أعمال القتل والإرهاب. تأليف وصناعة الأكاذيب ليسا جديدين، فالتاريخ يضم الكثير منهما، ولكنهما يتناميان ويزدهران أكثر كلما كثرت الجرائم، وتسارعت الأحداث وتوالت الإخفاقات، وانكشف المستور من الفساد والعفن السياسي والثقافي والاجتماعي.