نحن لا نتجاهل التفاصيل المهمة . نعم، هناك خطر حقيقي ماثل في ساحة النزاع . وهو وجود بعض الجماعات الإرهابية، خاصة وأن بعضها له اتصال وثيق بالقاعدة . هذا خطر حقيقي بلا شك، ولأنه كذلك فإن نظام الأسد يلعب عليه، ويضع نفسه إبان مخاطبته العالم الغربي كخيار بديل لهذه الجماعات، وكأنه أو الإرهاب هما الخيار الوحيد، ولا خيار غيره لا أستطيع أن أكتم خيبة أملي من الموقف الأمريكي المتراخي حيال ما يجري في سورية اليوم . لا شيء يبرر هذا الموقف الذي لا ينطوي في الحقيقة على أي موقف، لا شيء يبرره، لا المبدأ السياسي ولا المبدأ الأخلاقي، خاصة بعد أن أعلن الرئيس الأمريكي بذاته أن مصداقية العالم المتحضر على المحك ؛ إذا لم يعاقب النظام السوري على جريمته الكبرى المتمثلة في استخدام الأسلحة المحرمة دوليا ، تلك التي خلّف استخدامها أكثر من ألف وأربعمئة قتيل، في سابقة إبادة لم يجرؤ عليها أحد إلا نظيره الهالك : صدّام حسين. أكتب هذه الأسطر فجر الثلاثاء، والرئيس الأمريكي يعلن بكل صور الترهل السياسي أنه يرحب بالحل السلمي ؛ إذا ما كان يضمن عدم تكرار النظام لجريمته (المتحددة وفق الرؤية الأمريكية / الغربية في مجرد استخدام السلاح الكيماوي)، وكأنها أول جريمة يقترفها هذا النظام الدموي الذي مرد على القتل والتنكيل وسحق كرامة الإنسان منذ استولى الأسد الأب على النظام قبل أكثر من أربعين عاما. هذا النظام السوري الساقط سياسيا وإنسانيا وأخلاقيا لم تكن هذه المجزرة الكيماوية أول جريمة له، لا في تاريخه القريب ولا في تاريخه البعيد نسبيا. الضحايا الذين سقطوا في هذه المجزرة لا يُمثّلون أكثر من 1% من عدد الضحايا الذين سقطوا خلال السنتين الماضيتين . هل القصف بالطائرات وبالدبابات وبالمدفعية الثقيلة (والتي تقتل دون تمييز كالأسلحة الكيماوية)، ودكّ المدن الآهلة بالسكان على قاطنيها، وسقوط أكثر من مئة وعشرين ألف قتيل، ليس جريمة يستحق أن يقدم النظام السوري جرّاءها إلى العدالة الدولية، تلك العدالة الغائبة، والتي لو كانت حاضرة بحق ؛ لكان من المفترض أن تضع رموزه ورموز حلفائه في المنطقة على قائمة مجرمي الحرب ؟ أتساءل بمرارة وألم، بل وغضب : ما هو الرقم البشع الذي ينتظره المجتمع الدولي المتمثل حقيقة في إرادة الولاياتالمتحدة حتى يتحرك ضميره ؛ فيتحرك على أرض الواقع لوقف هذا النزيف الإنساني ؟ الموقف الأمريكي، وعلى الأخص موقف الرئيس أوباما، تُحرّكه مخاوف صنعها الفشل الأمريكي في العراق وأفغانستان. للأسف، تجربة الفشل هي ما يحدد الآن سياسة دولة عظمى كالولاياتالمتحدة، عقدة الفشل تستولي على كثير من عناصر الرؤية السياسية الخارجية، بحيث ظهرت أمريكا بكل ما تمثله من قيمة مادية ورمزية للعالم الحر وكأنها تخاف من اتخاذ قرار حرب صغيرة ومحدودة، مع كونها حربا يفرضها السياق السياسي والإنساني، ومع كونها أيضا حربا في مواجهة نظام كرتوني هزيل، نظام مفرغ من القيمة والمعنى، نظام عصابات إجرامية لا تجد معنى لانتظامها إلا كونه حِلفَ قراصنة مشدودين إلى أهداف أنانية خالصة، نظام متحلل، نظام جبان ومذعور، نظام ساقط قبل أن يسقط، نظام ليس يصمد أكثر من ثلاث ساعات ؛ هذا في أحسن الأحوال. أخطر شيء على أي نظام، كما هو أخطر شيء على أي فرد، هو أن يكون أسير فشله. الإنسان الناجح ليس هو الإنسان الذي لا يفشل، أو الذي لا يكون الفشل واردا له بحال، بل هو الذي لا يكون فشله ولو تكرر مُتحكّما فيه، أي لا يرتقي الفشل من كونه أحد مكونات الحراك الديناميكي إلى مرتبة يحتل فيها قمرة القيادة، بمعنى أن يتحوّل الفشل كوقائع متفرقة واستثنائية وعابرة إلى سياسة فشل، إلى منهجية فشل عام، جراء وقائع فشل تبقى رغم ضغطها على الوعي سياسيا وإنسانيا خارج السياق . لأمريكا نجاحاتها الباهرة في كل المجالات، لها كل هذا الحضور الإيجابي الفاعل الممتد على مدى قرن من الزمان (وتحديدا منذ تدخلها الحاسم في الحرب العالمية الأولى)، كما أن لها سلبياتها (ومنها وقائع الفشل السياسي والعسكري المحدود) التي لا يمكن أن تلغي ولا أن تحد من قيمة الحضور الإيجابي، إذ هي لا تعدو أن تكون استثناءات عابرة في المسيرة الحضارية الرائعة للولايات المتحدة . لكن، هناك خطر ما في هذه المسيرة الزاخرة بالتنوع الخلاق، وتكمن الخطورة في أن يطغى هذا السلبي والمحدود على وعي صانع القرار الأمريكي، بقدر ما يطغى وإن بصورة أخرى، ومن منظور آخر على وعي أعداء أمريكا في العالم، أولئك الحانقين الذين يختصرون أمريكا بكل حضورها الإيجابي في سلبياتها المحدودة . فيكون صانع القرار الأمريكي في مثل هذه الحال، ومن غير قصد متقاطعا مع جوهر الموقف العدائي للولايات المتحدة، إذ كلاهما يختصر مسيرتها الخلاقة في السلبي الاستثنائي والعابر والمحدود . أمريكا المترددة اليوم في اتخاذ قرار حرب لإنقاذ الإنسان السوري، ترتكب أكبر الأخطاء سياسيا وإنسانيا ، وهي على المحك حقيقة ؛ كما يقول الرئيس الأمريكي المفتقر إلى ملكة الحزم الرئاسي. هو من حيث موقع المسؤولية الأمريكية عن النظام العالمي مَنْ ترك الأمور تتفاقم طوال سنتين ؛ دون أن يحرك ساكنا، ولو في أضيق الحدود . إنه الرئيس الذي تفاءل بذكائه وبحسه الإنساني وبوعوده الديمقراطية كثيرون في العالم العربي، وراهنوا عليه كثيرا في ترميم التصدّعات السياسية التي تسببت بها غباوات بوش الصغير، ذاك الذي كان رغم محدودية ذكائه وضحالة ثقافته أجرأ من أوباما بكثير، وربما غطت تلك الجرأة التي كانت تضع القوة الأمريكية في نصابها على محدودية الذكاء. ولو لم يكن لبوش الصغير إلا إسقاط نظام صدّام لكفى . الرئيس أي رئيس هو : قرار جريء، بعد أن يكون قرارا مدروسا بعناية فائقة. ورئيس بلا قرار، وبلا دراسة سابقة للقرار، ليس رئيسا ؛ مهما كانت فخامة الألقاب . الرئيس الأمريكي : جون كيندي، واجه أزمة الصواريخ الكوبية بحزم، وقال بعد أن قرأ آلاف التقارير الاستخباراتية التي تظهر خطورة الصواريخ على أمريكا مقولته الشهيرة : إذا كان قرار الحرب هو أخطر قرار يتخذه أي رئيس، فإن عدم اتخاذ قرار الحرب قد يكون أخطر من قرار الحرب . ولا بد أن نأخذ في الاعتبار أن كيندي كان يتحدث عن قرار حرب نووية، إذ هو بشجاعته التاريخية وضع هذه الحرب قيد الاحتمال، بدل أن تكون المدن الأمريكية تحت رحمة الصواريخ الروسية في كوبا . وقد بات من الواضح الآن أنه لولا قرار كيندي التاريخي بدخول حرب مفتوحة ؛ إن لم يتم سحب الصواريخ ؛ لربما كانت أمريكا والعالم من ورائها إلى الآن تحت رحمة الإرهاب السوفياتي. أيضا، لولا قرار رئيس الحكومة البريطانية : ونستون تشرشل بدخول المواجهة مع هتلر ؛ لأصبحت النازية تحكم العالم . بل إن تشرشل نفسه مكث يدفع فاتورة أخطاء الساسة السابقين عليه، أولئك الذين ترددوا كثيرا في دخول الحرب ضد هتلر، واستعظموا تكاليف المواجهة، ولم يفكروا في تكاليف عدم المواجهة . لقد كان تشرشل قبل أن يترأس الحكومة يدعو إلى مواجهة هتلر، ويعدّه مرضا شيطانيا يجب استئصاله، بينما كان الساسة المترهلون سياسيا يُراهنون على الحلول السلمية، ويؤكدون بدافع التفكير الرغبوي المتمني أن هتلر سيتوقف بعد التهام المناطق الحدودية المتنازع عليها، بينما كان تشرشل في الطرف الآخر يؤكد أن شهية هتلر التوسعية ليس لها حدود. لقد فهم تشرشل طبيعة النظام النازي، وطبيعة هتلر على وجه الخصوص. ولو أن أعضاء الحكومة السابقة استمعوا له، وسارعوا بمواجهة السرطان النازي واستئصاله من جذوره قبل استفحاله ؛ لأنقذوا ملايين الأرواح التي ذهبت ضحية التأخر في اتخاذ قرار الحرب في الوقت المناسب . فقرار الحرب يجب أن يتخذ في الوقت المناسب ؛ دونما تعلل بالتفاصيل المثيرة والمُحيرة والمربكة، والتي يجب أخذها في الاعتبار، ولكن لا يجوز أن تتحكم في القرار المصيري الذي يحدد مصير أوطان بأكملها، ويضعها على كف عفريت، أي على كف مزاج رئيس !. كما هي الحال في الماضي القريب، نجد اليوم الرئيس الأمريكي يتحدث عن ترحيبه بالحل السلمي ؛ إذا ما كان يضمن عدم تكرار الجريمة (ويقصد المذبحة الكيماوية فقط)، ولا يدرك أن النتائج الفادحة لتأخره في اتخاذ قرار الحرب، أو لإلغائه قرار الحرب، قد تفوق كل ما خسرته أمريكا في كل من العراق وأفغانستان. إن النظام السوري ليس مجرد نظام دكتاتوري فحسب، بل هو أخطر من ذلك . وأنا هنا أتكلم بشكل أعم، أي عن انعكاسات بقائه على الشعب السوري من جهة، وعلى مسيرة الدكتاتورية في العالم العربي من جهة أخرى . فمن المؤكد أن بقاء هذا النظام سيكون مؤسسا لشرعية دكتاتورية عربية أعمق وأشمل، دكتاتورية طاغية، متعاضدة، قد تمتد على طول القرن الحادي والعشرين، وستتفرع وتتناسل على مستوى الوجود المعنوي/ الرمزي، وعلى مستوى الوجود المادي، إلى أن تلغي الإنسان العربي من أساس وجوده الذي لا يزال مهزوزا إلى الآن، إلى درجة أن بات وجودا قابلا للإلغاء. من حقنا أن نفكر في مسار هذا الحل السلمي الأمريكي المقترح : أين سيكون موقع الشعب السوري، أو على الأقل أين سيكون موقع القطاع الكبير من الشعب السوري الذي لم يعد يملك إلا خيار المواجهة مع نظام فاشي يتخذ قرارات الإبادة الجمعية وكأنه يمارس عملا روتينيا لا علاقة له بأرواح ملايين الأبرياء .إن عملية الإبادة التي يمارسها النظام السوري بحق شعبه منذ أكثر من سنتين ليست عملية استثنائية، ليست حالة طارئة على فلسفة السياسة الأسدية / البعثية (فالمذابح في حماة وتدمر وفي مواجهة الفلسطينيين في لبنان، وعمليات الاغتيال الواسع في الداخل السوري وفي الخارج ...إلخ هي ما تكشف عن طبيعة النظام)، ليست أخطاء وتجاوزات يمكن إجبار النظام على الرجوع عنها، والبدء بعملية إصلاح تسع الجميع . إنها ليست حالات مرضية طارئة على الجسد الصحيح، بل هي منهج سياسي، ورؤية ثقافية خاصة، ونزعة وجدانية متأصلة في عمق النفس، بحيث لا يستطيع النظام إصلاح نفسه حتى لو أراد ؛ لأنه هو بذاته مريض . وطبعا والحال كذلك، ومن باب أولى لا يستطيع أحد من خارجه إصلاحه، ولو امتلك المعجزات. هذا يعني أن مثل هذا النظام لا يمكن إصلاحه إلا باستئصاله من جذوره، باجتثاثه من طبقة الأرض السابعة، لا بد من عملية تطهير وتعقيم ثقافية تعقب استئصال المكونات النظامية، تلك التي تحمي النظام أو تلك التي تحتمي بالنظام ؛ لأن بقاء أي منها كفيل بعودة هذا النظام السرطاني على وجه من الوجوه. والغرب، عندما يعمى أو يتعامى عن هذه الحقيقة، فهو يستجيب لسهولة الحلول السطحية والظرفية، دون أن يعي خطورة عدم الإقدام على بتر هذا العضو الفاسد من جسد الإنسانية، وليس من جسد العرب أو المسلمين فقط . صحيح أنه سيكون لعملية الاستئصال تداعيات محلية (= سورية) وإقليمية كبيرة، وربما خطيرة. لكن، لا يمكن أن نقيس هذه التداعيات بتطلعاتنا المثالية عن واقعٍ نتمناه، بل لا بد أن نقيس ما نخشاه من هذه التداعيات بما يمكن أن يسفر عنه التسامح مع نظام إجرامي متوحش، لم يتوانَ، ولن يتوانى، عن ارتكاب أعمال إبادة جماعية، ستشعر البشرية جمعاء ولو بعد حين ت بعار أنها سكتت عنه في يوم من الأيام. نحن لا نتجاهل التفاصيل المهمة . نعم، هناك خطر حقيقي ماثل في ساحة النزاع . وهو وجود بعض الجماعات الإرهابية، خاصة وأن بعضها له اتصال وثيق بالقاعدة . هذا خطر حقيقي بلا شك، ولأنه كذلك فإن نظام الأسد يلعب عليه، ويضع نفسه إبان مخاطبته العالم الغربي كخيار بديل لهذه الجماعات، وكأنه أو الإرهاب هما الخيار الوحيد، ولا خيار غيره . مسألة الإرهاب في سورية رغم خطورتها هي مسألة ثانوية إذا ما قيست بخطورة النظام الحاكم. مسألة الإرهاب يمكن إدراج حلّها في إطار حل مشكلة النظام ذاته. أي ما الذي يمنع من القضاء عليها وعلى النظام وفي وقت واحد، وأن يتم توجيه الضربات إلى هذه الجماعات وإلى النظام بالتزامن، في الوقت الذي يتم في دعم القوى الأخرى المضادة للنظام وللإرهابيين بكل صور الدعم، المادي منها والسياسي؟ هذا هو الخيار الأمثل ؛ إلا أن يرى الغرب أن النظام الأسدي هو النظام المثالي المتوفر حاليا للحفاظ على أمن إسرائيل، وأن كل الضمانات التي يُمكن أن يقدمها الآخرون لا ترقى إلى ما يقدمه نظام المقاومة والممانعة الذي رفع راية الاستسلام الخاضع الخانع الخائن، قابلا بتسليم أسلحته لأعدائه (وسيقبل تبعا لظروف التهديد الغربي حتى بتفتيش غرف نوم الرئيس، وربما حتى بتفتيش..!) ؛ من أجل بقاء شخص الرئيس الملهم على قمة هرم النظام، نظام المقاومة والممانعة والصمود، نظام الأمة العربية الواحدة ذات الرسالة الخالدة، النظام العروبي الوطني الذي قتل أكثر من مئة وعشرين ألف سوري في سنتين، بينما لم يقتل إسرائيليا واحدا على مدى أربعين عاما من عمره المديد في سلطة القهر والاستبداد..