مشبعاً بها حد الامتلاء، مشبعاً بذلك الحنين الذي لا ييبس كقشرة برتقال تجمدت تحت الشمس، يأتيها في ظلمة الدهاليز، ينقش فيها كل الكلام الذي تذكر أخيرا بأنه لم يقله، يفتح قميصه قليلا ليترك صدره مواربا لمزيد من أشواق تأخذه إلى فتحة السماء، عند ممر قدميه يسمع الضجيج ولكنه مازال معلقا بها كعاشق لم يشفَ بعد من جرحه العميق، مازال ينزف ويترك خلفه ينابيع تتفجر حنيناً إلى التهام حالة شعرية، دقيقة جدا، كالماء شفافيتها.. كلما عطش مرر أصبعه فيها ليتأكد بأنها حقيقة.. على الرغم من أنه يعلم بأن سرابه كحقائقه تلك غير المعلنة.. وبرغم كل شيء.. يشتهيها، كلما مر قريبا منها يدخلها ليلمس هناك أصواتا لمخلوقات تغني للروح، تخلع جميع أساورها وتتركها قريبا من النبع الذي لا يشبهه شيء، فيها يترك كل شيء على طبيعته، فحتى الأحلام هناك تتمطى على آخرها، وهناك أيضا يعلق قلبه بعد أن ضاع ذات عاصفة في "الضجة".. محمد العثيم: نعم.. عشت عشر سنوات من العزلة وذلك الضجيج لا يهمني يأتيها ويعلن لها بأنه اختارها لينام فوق ذراعيها، أو ربما لتجرب هي أن تمسح على رأسه ثم تحكي له قصص الأطفال بألوانها الجاذبة، فوق وجنتيه تلصق الموج وبداخل عينيه تترك "قوس قزح يلون فيهما الأماني".. وقبل أن يأخذه النعاس تسرقه من جميع تلك الأحلام لتهديه "نهر" وتطلب منه أن يقول أي شيء عن كل شيء.. يعرفها جيدا.. ولا يتخلى عنها أبدا.. فهو مأسور بها، منعتقا بها، معشوقته الأبدية.. ووفاؤه الجميل.. تلك هي عزلته.. عزلة مثقف قديم.. قديم جدا.. اختار أن يكون لها فاختارت أن تمنحه كل ذلك الصمت.. د. عبدالرحمن العناد: إنهم ينسحبون لأن قطيعاً شعبوياً مسطحاً سيطر على الساحة وامتهن الهجوم على القديم وينسحب المبدع القديم دون أن يقول ذلك.. يدخل العزلة، عزلة الصمت، مخلفا وراءه الضجيج والنزاع والساحة الثقافية.. بكل حلباتها وأروقتها.. فما بال هؤلاء النخبة ينسحبون واحدا خلف الآخر؟ إلى أين يذهبون؟ وكأن الزمن ليس زمنهم، وما يهربون أو ينسحبون؟ من التحول المجتمعي؟ أو من أنفسهم؟ أو من وليمة شرسة يأكلون معها القيم؟ أو من مهمة الكلام إلى مهمة الصمت؟ خجل المبدع: سارة الخثلان: لن أركب ذلك الجمل وسأبتعد عن البقعة السوداء تلك لأجد النور محمد العثيم "الناقد المسرحي" يجد بأن هناك عدة وجوه لعزلة المبدعين القدماء الوجه الأول منها "أنها فترة لتشكيل أو حضانة لفكرة فهو يدخل تلك العزلة لأنه يعكف على شيء لا يستطيع أن يعلن عنه في الوقت الحالي ككتابة عمل، أو طبخ فكرة ما، أما الوجه الثاني: يتمثل في أن أغلب المبدعين القدماء يتصفون بالخجل فهو لا يدخل في مهاترات، ومن يدخل في تلك المهاترات غالبا لا يكون المبدع الأول بل انه المبدع الثاني أو المبدع المقلد الذي يدخل في الدفاع والمهاترات، فالمبدع غالبا مايطرح فكرته ويترك للآخرين النقاش، ويكون في حالة رضا عن ذلك النقاش حتى إن حدث شيء من النقد عليه وذلك مايحدث له حيث يشعر بالفرح حينما تحدث نقاشات حول فكرة ما قام بطرحها تنبش في الصميم ففي ذلك إفادة كبيرة، أما الوجه الثالث: هناك من يقول كلمته من المبدعين ويقول: أنا قلت كلمتي ولكم ماتشاؤون" ولذلك فيشترط في المبدع أن يكون ناقدا ولديه جميع أطراف المواضيع حتى يدخل الآخرين في نقاش تلك الأفكار، كما أنه لا يمكن أن يكون هناك نقد أو ضجيج حول موضوع بدون وجود الموضوع نفسه فالمبدع له الفضل في تحريض الآخرين على الحديث عن موضوع ما. عبدالرحمن العناد المنظومة الواحدة: أما من يظن بأن المبدعين القدماء ينسحبون ويدخلون العزلة لأنهم ينأون بأنفسهم عن مايحدث من مهازل ثقافية فذلك ليس حقيقيا، لأن من يدخل العزلة هم فئة تعتبر نفسها النخبة كما أن صورة الثقافة قد تغيرت، فليس من الممكن "اليوم" أن نستبعد مايحدث عبر التواصل الاجتماعي من "تويتر" واستغرام" من المنظومة الثقافية، فإذا كان المبدع القديم لا يستطيع استيعاب مايجري فعلينا أن لا نلوم المبدع الجديد، لأنه في تلك الحالة سيقول بأن المبدع القديم لا يستطيع أن ينتقد مايجري، ففي زمن ماض قديم كنا نكتب المسرح ومبدعونا لا يعرفون أن يناقشوا المسرح، فحينما دخل المسرح مبكرا في السبعينيات والثمانيات فهناك من لم يستطع استيعابها فينصرف عن المسرح، وحتى الآن يتم الإعلان عن مسرحيات إنما من يحضرها الجمهور فليس هناك مبدع يقول "سأحضر لكي أرى مايقال في تلك المسرحية " وربما هناك - وأنا واحد منهم - من دخل في التواصل الاجتماعي والفنون والأغنية لأن جميع ذلك منظومة ثقافية واحدة لا يمكن أن نفرقها عن بعضها ونقول على سبيل المثال قصيدة العامود هي فقط من تمثل الثقافة وماعداها لا ثقافة، فحتى على مستوى الرواية أصبحت اليوم تتعرض إلى ضربة في الصميم فلم تعد الرواية هي تلك الرواية الأدبية المليئة بالأساليب والأشكال لأن الكاتب لم يعد مضطر لكي يوثق، بل ان المنظر هو من يوثق فالرواية تغنيه عن كل الأوصاف فألوان كثيرة تغيرت في الثقافة عن ما قبل، فالمثقف القديم ينسحب عمداً عنها لا زهدا فيها. إنتاج العزلة: وعن عزلته يقول "نعم أمر بعزلة طويلة منذ أكثر من عشر سنوات، ولكنني احمد الله - سبحانه - إذ استطعت أن أنتج في تلك العزلة ستة كتب، فأنا أجلس دائما بمفردي ومبتعد عن الشلل، وعن الاستراحات وعن الأسواق، حتى أنتج ذلك القدر من الكتب.. واليوم أستطيع أن أقول بأن لدي ستة كتب ثلاثة مطبوعة وقبل أيام انتهيت من روايتي الجديدة ويوجد هناك كتابان بقي عليها أشياء شكلية فقط، لذلك فالعزلة للمبدع ضرورية لأنك لن تستطيع أن تنشغل مع الناس وتبدع في ذات الوقت لأن الناس تشغل المبدع، كما أن ممارسة الكتابة الصحفية بشكل دائم لا تمنح الفرصة لإنتاج عمل تاريخي شخصي وإبداعي، فالكتابة في المسرح وكتابة الرواية تعني لي الكثير أكثر من الضجيج الموجود في المجتمعات سواء كان ذلك الضجيج في الأندية الأدبية أو في الاستراحات، فعزلة العمل ضرورية وليست العزلة الكلية وذلك لإظهار تجربة يقرأها الناس. هجوم القطيع: يرى الدكتور عبدالرحمن العناد - أستاذ الإعلام المشارك بجامعة الملك سعود - بأن مثل هذه الانسحابات تعبر عن عدم الرضا على الواقع الثقافي والإبداعي والفكري، وأيضا قد يكون ذلك الانسحاب تعبيرا عن عدم التكيف مع وسائل التواصل الاجتماعية الجديدة، فهناك من المبدعين القدامى من لا يجيدون الاستخدام لها، وكذلك قد تكون هذه الانسحابات شكلا من اشكال صراع الأجيال، فالاختلاف مع التوجهات للأشياء الجديدة في فكرهم وتعاملهم للواقع الفكري التي تعتبر ثائرة عن ماهو تقليدي، وكل ماهو قديم، فيوجد ردة فعل قوية ربما تأتي من عدم تقدير إنتاجهم السابق وتحول الثقافة في الوقت الحاضر إلى ثقافة سوقية وسطحية لا وجود فيها للنخبة، لعدم تقدير الدور القيادي للنخب واختلف بشكل كبير عما كان عليه في الأوقات السابقة والسنين الماضية، مشيرا إلى وجود أطروحات شعبوية كبيرة وكثيرة وتنتشر بشكل سريع ولا يتفق مع المبدعين ولكنهم يلتزمون الصمت خوفا من الهجوم عليهم من قبل هذه الثقافة الشعبية السطحية والضحلة ولكنها تمارس ضغطا قويا في التأثير على المبدعين والمثقفين القداما، ولذلك فانهم يلزمون الصمت خوفا من هجوم "القطيع الإلكتروني" عليهم. محمد العثيم العزلة الصحية: أما عن من يدخل العزلة من المبدعين القدامى لكي يعكف على إنتاج أدبي جديد فيقول "العناد" بأن إنتاج ذلك المبدع من يثبت وجهة نظهره، وهل أصبح إنتاجه الأدبي أكثر في فترة العزلة؟ فإن حدث ذلك فإن ذلك حالة صحية، ولكن البعض اختفى عن الساحة فلم ينتج ولم يعد يتفاعل في الساحة الثقافية، فربما يكون هناك من المبدعين من استغلوا العزلة بمزيد من الإنتاج ولكن ذلك لا ينطبق على الجميع، فهناك من كان انسحابهم "ضغطا" على سطحية التفكير السائد وعقلية القطيع السائدة في الوسائل الالكترونية وترفعهم عن الدخول في نقاشات مع ممارسي هذه العملية التواصلية كما أنه لا توجد وسائل بديلة لطرح إبداعاتهم سوى وسائل التواصل الاجتماعي، فالوسائل التقليدية قل الإقبال عليها ولذلك لا توجد محفزات للمبدع القديم لكي ينتج أكثر لأنه لا يوجد تفاعل للمنتج أصلا، فقد اختلف الوضع واختلفت الموازين وأصبح هناك مشاهير وليسوا مبدعين في "توتير" بالذات وأصبح لديهم ملايين من الأسماء وربما تكون أطروحاتهم سطحية جدا ولكنها تجد القبول الواسع بحيث ان الإنتاج الراقي والمبدع والذي يصدر على شكل كتاب لا يجد ملايين المتابعين له أو من يقرأ فيه. أما عن دخول العزلة فمازال"العناد" يرى بأنه يستطيع أن يتفاعل مع المشهد بنقده وأطروحاته الثقافية فهو ليس مبدعا ولكنه مهتم وقارئ وناقد للمشهد وأكاديمي إلا أن ذلك لا يمنع من وجود الكثير من الأسماء الثقافية الكبيرة ولهم مؤلفات مختلفة وهناك شعراء وأسماء لم تدخل أبدا قنوات التواصل الاجتماعي وهي أسماء كبيرة، بل ان هناك أسماء وهمية ووجد من انتحل شخصياتهم وهم غائبون. تهمة الثقافة: تقول سارة الخثلان - الأديبة والشاعرة - نعم نختار العزلة لنفتش عن الأشياء التي لم يعد أحد يبحث عنها، ننسحب لأن الساحة الثقافية أصبحت مليئة بأشياء غريبة من المناحرات والخلافات والإساءة للغير حتى فضلنا أن نترفع عما يحدث، فتلك أمور لا ترتبط بالإبداع بأي شكل من الأشكال، ولا تتعلق بالإنسان وما يهمه، يحدث ذلك والإشكالية الكبيرة في خروج بعض الأسماء الذين سموا أنفسهم بالمثقفين والمبدعين وألصقوا بأنفسهم بمسميات هم بعيدون عنها في الحقيقية حتى أصبحت الساحة الثقافية تعج بجميع تلك النماذج ووجد من يصفق لها، ويصدقها، حتى كانت هناك من تطلق على نفسها " سيدة المرايا، وسيدة الإبداع وغيرها من المسميات الغريبة التي تجاوزت حدود واحترام الثقافة. " نعم.. نختار العزلة لأن في ذلك الصمت البعيد السعادة والراحة والاطمئنان وممارسة الأشياء الجميلة، والتفاعل مع مايحدث خارجا بعيدا عن الأضواء ولكن يكفي قراءة كل ذلك بعمق، أنني أبحث عن ضوء بعيد وعن تجريد وعن أشياء ثمينة. حتى إن حدث ذلك بعيدا عن الشهرة والأضواء فالأهم الحديث عن أشياء تمس واقعنا، وتثير الألم، أو ربما تثير الفرح، فذلك ما يغري ولكن شريطة أن يحدث ذلك دون أن أنزل إلى القاع، أو أن أضع قدمي في ميدان أصبح يمتلئ بالمهازل " " وأرفض التوتير وأرفض المشاركة فيه، حتى إن لم أركب الجمل الذي أصبح الجميع يركبه دون أن يعرف إلى أين الطريق، فالمشاركة الحقيقية في التأمل والإسهام في تغير عميق يتعلق بالنفس الإنسانية وليس في أحاديث تكتب على التويتر أو في أي مكان لمجرد الظهور. ثم تستطرد " نعم يجب أن نشارك في إصلاح مافسد، ولن يحدث ذلك إلا بالمشاركة والمساهمة ولكن السؤال هنا الأهم: هل نستطيع أن ندافع عن أنفسنا في هذا المشهد الذي سيطرت عليه أسماء معينة وأصبحت هي من تديره وتؤثر فيه؟ فجميعنا نملك القدرة على الحديث واعتلاء المنابر ولكننا لن نستطيع أن نشارك فيما يحدث بذات المستوى في المشهد الثقافي لأننا لسنا جزء من تلك الثقافة.. وفي النهاية أنا سعيدة بهذه العزلة، سعيدة بهذا الصمت، سعيدة بأنني مازلت موجودة وقادرة على الاستمتاع بعالم الثقافة والأدب وممارسة هواياتي حتى إن حدث ذلك بصمت ومن خلال عزلة ولكنها عزلة نقاء بعيدا عن كل ذلك السواد الذي أصبحنا نراه.