مع استمرار الحرب السورية واستحالة توافق اللبنانيين على مرشح رئاسي يوصلونه إلى قصر بعبدا تزداد الشكوك بأي عودة قريبة للاستقرار إلى لبنان، وبالتالي عودته محطة أساسية لإخوانه العرب. فلم يكن لبنان بحاجة يوماً إلى غطاء عربي وربما دولي أضا، مثله في هذه الفترة الرمادية من حياته، فنادراً ما ورد اسمه منذ مدة إلا مقروناً بحديث الأزمة السورية التي ترى فيها قوى عديدة انها معبر أساسي لضرب استقرار الكيان السياسي اللبناني. ولكن هل صحيح أن لبنان أضحى قيامه وزواله متوقفين على ما يجري في سورية، وهل هو أصبح من السطحية في صلته بالعالم وهشاشة الجذور في علاقاته العربية إلى هذا الحد. مرة جديدة تتأكد بعد مرات وعلى مدى الزمن العلاقة الخاصة والقديمة التي تربط لبنان بكبير العائلة العربية المملكة العربية السعودية وكأن هذه العلاقة التي كان لبنان دائماً يستشعرها ويعتز بها ويغذيها منذ أيام بشارة الخوري ورياض الصلح، إنما هي إفراز حميد لتلك الكيمياء الخاصة من المودة المتبادلة التي تنشأ عادة من داخل العائلة الواحدة بين الشقيق الأكبر والشقيق الأصغر. تبقى الرياض وما تمثله من ثقل عربي ودولي وإسلامي، القادرة على ضخ جرعات الدعم السياسي إلى لبنان المريض، والقادرة أيضاً على تقريب وجهات النظر واستيلاد المقاربات الموصلة إلى التوافق على اسم جدّي لمرشح لرئاسة الجمهورية كما فعلت في الطائف وغير الطائف، علّ لبنان يستعيد عافيته واستقراره ولو متأخراً لقد جرب اللبنانيون السفر الى أميركا الشمالية والجنوبية، ونجحوا هناك وغير هناك في أعمالهم، ولكن السفر إلى البلدان العربية ولا سيما المملكة ظل له عند الكثيرين منهم مكان خاص. وليس رجال الأعمال اللبنانيون وحدهم كانوا منارة توجيه لمواطنيهم إلى الجزيرة وإنما كتابات أمين الريحاني الدسمة والممتعة عن المملكة والمشحونة بالرومانطيقية لعبت دوراً محسوساً في جذب البعداء والغرباء إليها، كما لعبت الدور نفسه كتابات الكثيرين من غير العرب الذين ألفوا عن المملكة كتباً ونشروا مقالات كثيرة في أمهات الصحف العالمية. لكأن خجلاً راح يستولي أكثر فأكثر أو غير المسلم على الإنسان العربي المسلم وهو يكتشف أنه لا يعرف من البلدان العربية إلا البلد الذي يعيش فيه أو الذي يجاوره عن قرب. وإذا كان العربي شأنه شأن كل إنسان على شيء من الصحوة في هذا العالم أصبح يخجل من أن لا يكون قد عرف من بلاده إلا القطر الذي ولد فيه أو ذلك الذي في جواره، فقد توسعت مع الأيام بقعة الزيت، بحيث أصبح الكثيرون من سكان العالم يخجلون إذا هم لم يعرفوا أجزاء كثيرة من هذا العالم، لا سيما تلك التي ك"الجزيرة العربية" ذات الأرض المقدسة والطاقة المادية الضرورية لتقدم العالم كل العالم القريب منها والبعيد. بعد قرون من ظهور الإسلام في أرض العرب الذي أعطاهم مكاناً خاصاً في هذا العالم، ها هو النفط محرك القدرات الصناعية والمدنية يطفو على سطح الأرض العربية ليجعل بلاد العرب محجةً من نوع جديد تؤخد لها ومنها. القدرة المادية على صنع الحياة الاقتصادية والدنيوية القوية في هذا العالم. لقد مضى الزمن الذي كان الدور الديني للمملكة هو الوحيد البارز فيها، فمنذ مدة غير قصيرة والمملكة مصدر إرشاد وتماسك وطموح في حياة الأمة العربية بل والكثير من الدول والأمم الأخرى. فمنذ أيام الملك عبدالعزيز والعقل السياسي السعودي يلعب دوره في اغناء الحياة السياسية والاقتصادية للأمة. وإذا كان المرء حيث يضع نفسه كما في كلام العرب فإن القيمين على المملكة ملوكاً وأمراء تمكنوا من أن يجعلوا من أنفسهم مراجع في معرفة حياة الدول العربية وشؤونها وشجونها وما يدفع بها نحو الأمن والأمان والقدرة على التخطيط والفصل والنهوض، وليست آسيا وإفريقيا وحدهما هما اللتان تفيدان من الدعم السعودي للعديد من الدول. هذا ولا بد من القول إن المملكة لم تعد حكامها فقط، بل هي ومجتمعها ومنتدياتها وصحفها ومثقفوها أيضاً إلى جانب سلطة القرار الأعلى مشخصة في الملك دولة للعروبة والإسلام، هكذا فهم عبدالعزيز آل سعود مشروعه التاريخي منذ أن اندفع فتياً في مسيرته، لهذا عاش وشاد وعلى هذا قضى، وكأن كل هم كبير حمله عربي أو تحرك به وله هو همه. كانت المملكة به ومعه ثانية كل اثنتين من الدول العربية، إن لم تكن الأولى والنضال الفلسطيني والعربي الممانع لأسرألة فلسطين وهو الأهم من نضالات الأمة كانت انطلاقته في المملكة ومن المملكة، وتأسيس جامعة الدول العربية تم على يدي عبدالرحمن عزام شبه السعودي هماً وسياسة واستقلال سورية ولبنان تحقق مدعوماً هو ورجالاً كشكري القوتلي ورياض الصلح من الرياض، والمشاريع الاستعمارية المشبوهة المسماة بالأحلاف سواء في لبنان أو سورية أو العراق وغيرها كانت السعودية وراء المناضلين العاملين لردها على أعقابها. والرياض كانت باستمرار مع موجة الاستقلالات العربية عن الوصاية الأجنبية بشتى صورها، مدركة دائماً أن دعم الاستقلال الخاص بكل قطر هو نطاق ضمان للاستقلال العربي في كل مكان. إن شخصيات كشكري القوتلي في سورية ورياض الصلح في لبنان وعبدالرحمن عزام في القاهرة والحاج أمين الحسيني في فلسطين وغيرهم لم يقطعوا يوماً علاقتهم بالرياض، هذا بالإضافة الى مسلمين غير عرب في الشرق والغرب كانوا هم وظلوا على صلة مع المملكة. لم يتوجه معظم هؤلاء وغيرهم إلى المملكة لدعم نضالاتهم الوطنية داخل أوطانهم فحسب، بل أيضاً لأخذ الدعم والمشورة لنضالات العرب والمسلمين حيثما كانوا تدفعهم إلى ذلك نزعاتهم الوطنية والدينية وغيرتهم على منزلة العروبة والإسلام. مع الوقت كان يتبين أكثر فأكثر أن أخذ المشورة والعضد من المملكة ضروري دائماً في أمور الدين والدنيا معاً، وعلى التحديد في الموضوع السياسي. ففي المجالين كان قادة المملكة بدءاً بعبدالعزيز آل سعود خير مساندين وخير مستشارين. لقد كان دائماً للمملكة ما تنير به الطريق لقادة الأوطان العربية والإسلامية قربوا أم بعدوا. وقد برهنت التجارب على أنه في حين كان يقصر معظم الزعماء العرب في المشورة بعضهم مع بعض كانت مشورات رجال المملكة السياسية تبقى دائماً ناضجة ومسددة. وها إن الأيام بدأت تؤشر بأن لبنان لن تستقيم أوضاعه إلا بمساندة دولتين عربيتين رئيسيتين له هما مصر والمملكة العربية السعودية، ومصر اليوم مشغولة بتسوية أوضاع بيتها الداخلي. وتبقى الرياض وما تمثله من ثقل عربي ودولي وإسلامي، القادرة على ضخ جرعات الدعم السياسي إلى لبنان المريض، والقادرة أيضاً على تقريب وجهات النظر واستيلاد المقاربات الموصلة إلى التوافق على اسم جدي لمرشح لرئاسة الجمهورية كما فعلت في الطائف وغير الطائف، علّ لبنان يستعيد عافيته واستقراره ولو متأخراً.